فصل: فَصْلٌ (مَوَاضِعُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ وَالضَّابِطُ فِيهَا أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَى الْأَصْلِ بِالْفَسَادِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***


النَّوْعُ الْأَوَّلُ‏:‏ فِي الْأَسْبَابِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى‏:‏ ‏[‏الْأَفْعَالُ الشَّرْعِيَّةُ‏]‏

الْأَفْعَالُ الْوَاقِعَةُ فِي الْوُجُودِ الْمُقْتَضِيَةُ لِأُمُورٍ تُشْرَعُ لِأَجْلِهَا أَوْ تُوضَعُ فَتَقْتَضِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ ضَرْبَان‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ خَارِجٌ عَنْ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ‏.‏

وَالْآخَرُ‏:‏ مَا يَصِحُّ دُخُولُهُ تَحْتَ مَقْدُورِهِ‏.‏

فَالْأَوَّلُ قَدْ يَكُونُ سَبَبًا، وَيَكُونُ شَرْطًا، وَيَكُونُ مَانِعًا‏.‏

فَالسَّبَبُ‏:‏ مِثْلُ كَوْنِ الِاضْطِرَارِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْمَيْتَةِ، وَخَوْفِ الْعَنَتِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ، وَالسَّلَسِ سَبَبًا فِي إِسْقَاطِ وُجُوبِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ مَعَ وُجُودِ الْخَارِجِ، وَزَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ سَبَبًا فِي إِيجَابِ تِلْكَ الصَّلَوَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَالشَّرْطُ‏:‏ كَكَوْنِ الْحَوْلِ شَرْطًا فِي إِيجَابِ الزَّكَاةِ، وَالْبُلُوغِ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ مُطْلَقًا، وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ، وَالرُّشْدِ شَرْطًا فِي دَفْعِ مَالِ الْيَتِيمِ إِلَيْهِ، وَإِرْسَالِ الرُّسُلِ شَرْطًا فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَمَا كَانَ نَحْوَ ذَلِكَ‏.‏

وَالْمَانِعُ‏:‏ كَكَوْنِ الْحَيْضِ مَانِعًا مِنَ الْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَوُجُوبِ الصَّلَوَاتِ وَأَدَاءِ الصِّيَامِ، وَالْجُنُونِ مَانِعًا مِنَ الْقِيَامِ بِالْعِبَادَاتِ وَإِطْلَاقِ التَّصَرُّفَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي‏:‏ فَلَهُ نَظَرَان‏:‏

نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ هُوَ مِمَّا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ- مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَأْذُونًا فِيهِ- مِنْ جِهَةِ اقْتِضَائِهِ لِلْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ جَلْبًا أَوْ دَفْعًا؛ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلِانْتِفَاعِ، وَالنِّكَاحِ لِلنَّسْلِ، وَالِانْقِيَادِ لِلطَّاعَةِ لِحُصُولِ الْفَوْزِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهُوَ بَيِّنٌ‏.‏

وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ خِطَابِ الْوَضْعِ إِمَّا سَبَبًا أَوْ شَرْطًا أَوْ مَانِعًا‏.‏

أَمَّا السَّبَبُ‏:‏ فَمِثْلُ كَوْنِ النِّكَاحِ سَبَبًا فِي حُصُولِ التَّوَارُثِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَتَحْرِيمِ الْمُصَاهَرَةِ وَحِلِّيَّةِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالذَّكَاةِ سَبَبًا لِحِلِّيَّةِ الِانْتِفَاعِ بِالْأَكْلِ، وَالسَّفَرِ سَبَبًا فِي إِبَاحَةِ الْقَصْرِ وَالْفِطْرِ، وَالْقَتْلِ وَالْجُرْحِ سَبَبًا لِلْقِصَاصِ، وَالزِّنَى وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالْقَذْفِ أَسْبَابًا لِحُصُولِ تِلْكَ الْعُقُوبَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ وُضِعَتْ أَسْبَابًا لِشَرْعِيَّةِ تِلْكَ الْمُسَبَّبَاتِ‏.‏

وَأَمَّا الشَّرْطُ‏:‏ فَمِثْلُ كَوْنِ النِّكَاحِ شَرْطًا فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ أَوْ فِي حِلِّ مُرَاجَعَةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا، وَالْإِحْصَانِ شَرْطًا فِي رَجْمِ الزَّانِي، وَالطَّهَارَةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَالنِّيَّةِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ، وَمَا أَشْبَهَهَا؛ لَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ، وَلَكِنَّهَا شُرُوطٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي صِحَّةِ تِلْكَ الْمُقْتَضَيَاتِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَانِعُ فَكَكَوْنِ نِكَاحِ الْأُخْتِ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ الْأُخْرَى، وَنِكَاحِ الْمَرْأَةِ مَانِعًا مِنْ نِكَاحِ عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا، وَالْإِيمَانِ مَانِعًا مِنَ الْقِصَاصِ لِلْكَافِرِ، وَالْكُفْرِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الطَّاعَاتِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ فِي الْأَمْرِ الْوَاحِدِ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا وَشَرْطًا وَمَانِعًا كَالْإِيمَانِ هُوَ سَبَبٌ فِي الثَّوَابِ، وَشَرْطٌ فِي وُجُوبِ الطَّاعَاتِ أَوْ فِي صِحَّتِهَا، وَمَانِعٌ مِنَ الْقِصَاصِ مِنْهُ لِلْكَافِرِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ‏.‏

غَيْرَ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ لَا تَجْتَمِعُ لِلشَّيْءِ الْوَاحِدِ، فَإِذَا وَقَعَ سَبَبًا لِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يَكُونُ شَرْطًا فِيهِ نَفْسِهِ وَلَا مَانِعًا لَهُ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّدَافُعِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ سَبَبًا لِحُكْمٍ، وَشَرَطًا لِآخَرَ، وَمَانِعًا لِآخَرَ، وَلَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهَا عَلَى الْحُكْمِ الْوَاحِدِ، وَلَا اجْتِمَاعُ اثْنَيْنِ مِنْهَا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ، كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي أَحْكَامِ خِطَابِ التَّكْلِيفِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ‏:‏ ‏[‏مَشْرُوعِيَّةُ الْأَسْبَابِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ الْمُسَبَّبَاتِ‏]‏

مَشْرُوعِيَّةُ الْأَسْبَابِ لَا تَسْتَلْزِمُ مَشْرُوعِيَّةَ الْمُسَبَّبَاتِ، وَإِنْ صَحَّ التَّلَازُمُ بَيْنَهُمَا عَادَةً، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِذَا تَعَلَّقَ بِهَا حُكْمٌ شَرْعِيٌّ مِنْ إِبَاحَةٍ أَوْ نَدْبٍ أَوْ مَنْعٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ التَّكْلِيفِ فَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَتَعَلَّقَ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِمُسَبَّبَاتِهَا فَإِذَا أَمَرَ بِالسَّبَبِ لَمْ يَسْتَلْزِمِ الْأَمْرُ بِالْمُسَبَّبِ، وَإِذَا نُهِيَ عَنْهُ لَمْ يَسْتَلْزِمِ النَّهْيُ عَنِ الْمُسَبَّبِ، وَإِذَا خَيَّرَ فِيهِ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يُخَيِّرَ فِي مُسَبَّبِهِ‏.‏

مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ الْأَمْرُ بِالْبَيْعِ مَثَلًا، لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَالْأَمْرُ بِالنِّكَاحِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِحِلِّيَّةِ الْبُضْعِ، وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِإِزْهَاقِ الرُّوحِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقَتْلِ الْعُدْوَانِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنِ الْإِزْهَاقِ، وَالنَّهْيُ عَنِ التَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ تَهَتُّكِ الْمُرَدَّى فِيهَا، وَالنَّهْيُ عَنْ جَعْلِ الثَّوْبِ فِي النَّارِ لَا يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ نَفْسِ الْإِحْرَاقِ، وَمِنْ ذَلِكَ كَثِيرٌ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ‏:‏ مَا ثَبَتَ فِي الْكَلَامِ مِنْ أَنَّ الَّذِي لِلْمُكَلَّفِ تَعَاطِي الْأَسْبَابِ، وَإِنَّمَا الْمُسَبَّبَاتُ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ، وَحُكْمُهُ لَا كَسْبَ فِيهِ لِلْمُكَلَّفِ، وَهَذَا يَتَبَيَّنُ فِي عِلْمٍ آخَرَ، وَالْقُرْآنُ وَالسَّنَةُ دَالَّانِ عَلَيْهِ، فَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا يَقْتَضِي ضَمَانَ الرِّزْقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏ ‏[‏الذَّارِيَات‏:‏ 22‏]‏ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 2‏]‏‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَمَانِ الرِّزْقِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ التَّسَبُّبِ إِلَى الرِّزْقِ، بَلِ الرِّزْقُ الْمُتَسَبَّبُ إِلَيْهِ‏.‏

وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ نَفْسَ التَّسَبُّبِ لَمَا كَانَ الْمُكَلَّفُ مَطْلُوبًا بِتَكَسُّبٍ فِيهِ عَلَى حَالٍ، وَلَوْ بِجَعْلِ اللُّقْمَةِ فِي الْفَمِ وَمَضْغِهَا أَوِ ازْدِرَاعِ الْحَبِّ أَوِ الْتِقَاطِ النَّبَاتِ أَوِ الثَّمَرَةِ الْمَأْكُولَةِ، لَكِنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ إِنَّمَا هُوَ عَيْنُ الْمُسَبَّبِ إِلَيْهِ، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا تُرْزَقُ الطَّيْرُ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَفِيه‏:‏ «اعْقِلْهَا، وَتَوَكَّلْ» فَفِي هَذَا وَنَحْوِهِ بَيَانٌ لِمَا تَقَدَّمَ‏.‏

وَمِمَّا يُبَيِّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 58- 59‏]‏‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 63‏]‏‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 68‏]‏‏.‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ‏}‏ ‏[‏الْوَاقِعَة‏:‏ 71‏]‏‏.‏

وَأَتَى عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 62‏]‏‏.‏

وَإِنَّمَا جَعَلَ إِلَيْهِمُ الْعَمَلَ لِيُجَازَوْا عَلَيْهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ لِلَّهِ وَحْدَهُ‏.‏

وَاسْتِقْرَاءُ هَذَا الْمَعْنَى مِنَ الشَّرِيعَةِ مَقْطُوعٌ بِهِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ دَخَلَتِ الْأَسْبَابُ الْمُكَلَّفُ بِهَا فِي مُقْتَضَى هَذَا الْعُمُومِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ وَالسَّمْعُ، فَصَارَتِ الْأَسْبَابُ هِيَ الَّتِي تَعَلَّقَتْ بِهَا مَكَاسِبُ الْعِبَادِ دُونَ الْمُسَبَّبَاتِ، فَإِذًا لَا يَتَعَلَّقُ التَّكْلِيفُ وَخِطَابُهُ إِلَّا بِمُكْتَسَبٍ، فَخَرَجَتِ الْمُسَبَّبَاتُ عَنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَقْدُورِهِمْ، وَلَوْ تَعَلَّقَ بِهَا لَكَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ غَيْرُ وَاقِعٍ كَمَا تَبَيَّنَ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَلَا يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الِاسْتِلْزَامَ مَوْجُودٌ، أَلَا تَرَى أَنَّ إِبَاحَةَ عُقُودِ الْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِهَا تَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ الْخَاصِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَإِذَا تَعَلَّقَ بِهَا التَّحْرِيمُ كَبَيْعِ الرِّبَا وَالْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ اسْتَلْزَمَ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ الْمُسَبَّبِ عَنْهَا، وَكَمَا فِي التَّعَدِّي وَالْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا، وَالذَّكَاةِ فِي الْحَيَوَانِ إِذَا كَانَتْ عَلَى وَفْقِ الْمَشْرُوعِ مُبَاحَةٌ، وَتَسْتَلْزِمُ إِبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ، فَإِذَا وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَشْرُوعِ كَانَتْ مَمْنُوعَةً، وَاسْتَلْزَمَتْ مَنْعَ الِانْتِفَاعِ‏.‏‏.‏‏.‏ إِلَى أَشْيَاءَ مِنْ هَذَا النَّحْوِ كَثِيرَةٍ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ‏:‏ إِنَّ الْأَمْرَ بِالْأَسْبَابِ وَالنَّهْيَ عَنْهَا، لَا يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِالْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا النَّهْيَ عَنْهَا، وَكَذَلِكَ فِي الْإِبَاحَةِ‏؟‏

لِأَنَّا نَقُولُ‏:‏ هَذَا كُلُّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِلْزَامِ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ أَوَّلَ الْمَسْأَلَةِ قَدْ دَلَّ عَلَى عَدَمِ الِاسْتِلْزَامِ، وَقَامَ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، فَمَا جَاءَ بِخِلَافِهِ فَعَلَى حُكْمِ الِاتِّفَاقِ لَا عَلَى حُكْمِ الِالْتِزَامِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِلْزَامٌ بِدَلِيلِ ظُهُورِهِ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَمْثِلَةِ، فَقَدْ يَكُونُ السَّبَبُ مُبَاحًا وَالْمُسَبَّبُ مَأْمُورٌ بِهِ، فَكَمَا نَقُولُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيع‏:‏ إِنَّهُ مُبَاحٌ، نَقُولُ فِي النَّفَقَةِ عَلَيْه‏:‏ إِنَّهَا وَاجِبَةٌ إِذَا كَانَ حَيَوَانًا، وَالنَّفَقَةُ مِنْ مُسَبَّبَاتِ الْعَقْدِ الْمُبَاحِ، وَكَذَلِكَ حَفِظُ الْأَمْوَالِ الْمُتَمَلَّكَةِ مُسَبَّبٌ عَنْ سَبَبٍ مُبَاحٍ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الذَّكَاةُ؛ فَإِنَّهَا لَا تُوصَفُ بِالتَّحْرِيمِ إِذَا وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَأْكُولِ كَالْخِنْزِيرِ وَالسِّبَاعِ الْعَادِيَةِ وَالْكَلْبِ وَنَحْوِهَا، مَعَ أَنَّ الِانْتِفَاعَ مُحَرَّمٌ فِي جَمِيعِهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا، وَمَكْرُوهٌ فِي الْبَعْضِ‏.‏

هَذَا فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ فَأَمْرُهَا أَسْهَلُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَحْرِيمِهَا أَنَّهَا فِي الشَّرْعِ لَيْسَتْ بِأَسْبَابٍ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا لَمْ تَكُنْ لَهَا مُسَبَّبَاتٌ؛ فَبَقِيَ الْمُسَبَّبُ عَنْهَا عَلَى أَصْلِهَا مِنَ الْمَنْعِ، لَا أَنَّ الْمَنْعَ تَسَبَّبَ عَنْ وُقُوعِ أَسْبَابٍ مَمْنُوعَةٍ، وَهَذَا كُلُّهُ ظَاهِرٌ؛ فَالْأَصْلُ مُطَّرِدٌ، وَالْقَاعِدَةُ مُسْتَتِبَّةٌ‏.‏ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْل‏:‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ‏:‏ ‏[‏لَا يَلْزَمُ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ‏]‏

وَهِيَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ فِي تَعَاطِي الْأَسْبَابِ مِنْ جِهَةِ الْمُكَلَّفِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَلَا الْقَصْدُ إِلَيْهَا، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْجَرَيَانُ تَحْتَ الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ لَا غَيْرَ، أَسْبَابًا كَانَتْ أَوْ غَيْرَ أَسْبَابٍ، مُعَلَّلَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْحَاكِمِ الْمُسَبِّبِ، وَأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ مَقْدُورِ الْمُكَلَّفِ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَيْهِ، فَمُرَاعَاتُهُ مَا هُوَ رَاجِعٌ لِكَسْبِهِ هُوَ اللَّازِمُ، وَهُوَ السَّبَبُ، وَمَا سِوَاهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ مِنَ الْمَطْلُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَكُونُ لِلنَّفْسِ فِيهِ حَظٌّ، وَإِلَى جِهَتِهِ مَيْلٌ، فَيَمْنَعُ مِنَ الدُّخُولِ تَحْتَ مُقْتَضَى الطَّلَبِ، فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يُوَلِّي عَلَى الْعَمَلِ مَنْ طَلَبَهُ، وَالْوِلَايَةُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا مَطْلُوبَةٌ؛ إِمَّا طَلَبَ الْوُجُوبِ أَوِ النَّدْبِ، وَلَكِنْ رَاعَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي ذَلِكَ مَا لَعَلَّهُ يَتَسَبَّبُ عَنِ اعْتِبَارِ الْحَظِّ، وَشَأْنُ طَلَبِ الْحَظِّ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْشَأَ عَنْهُ أُمُورٌ تُكْرَهُ، كَمَا سَيَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى، بَلْ قَدْ رَاعَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمُبَاحِ، فَقَالَ‏:‏ «مَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ فَخُذْهُ» الْحَدِيثَ؛ فَشَرَطَ فِي قَبُولِهِ عَدَمَ إِشْرَافِ النَّفْسِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَخْذَهُ بِإِشْرَافٍ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَتَفْسِيرُهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَر‏:‏ «مَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِحَقِّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ يَأْخُذُ مَالًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ»، وَأَخْذُهُ بِحَقِّهِ هُوَ أَنْ لَا يَنْسَى حَقَّ اللَّهِ فِيهِ، وَهُوَ مِنْ آثَارِ عَدَمِ إِشْرَافِ النَّفْسِ، وَأَخْذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ خِلَافُ ذَلِكَ، وَبَيَّنَ هَذَا الْمَعْنَى الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى‏:‏ «نِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ مَنْ أَعْطَى مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ، وَابْنَ السَّبِيلِ» أَوْ كَمَا قَالَ‏:‏ «وَإِنَّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ»‏.‏

وَوَجْهٌ ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْعُبَّادَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ- مِمَّنْ يُعْتَبَرُ مِثْلُهُ هَاهُنَا- أَخَذُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَخْلِيصِ الْأَعْمَالِ عَنْ شَوَائِبِ الْحُظُوظِ حَتَّى عَدُّوا مَيْلَ النُّفُوسِ إِلَى بَعْضِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ مِنْ جُمْلَةِ مَكَائِدِهَا، وَأَسَّسُوهَا قَاعِدَةً بَنَوْا عَلَيْهَا- فِي تَعَارُضِ الْأَعْمَالِ وَتَقْدِيمِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضِ- أَنْ يُقَدِّمُوا مَا لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ أَوْ مَا ثَقُلَ عَلَيْهَا، حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُمْ عَمَلٌ إِلَّا عَلَى مُخَالَفَةِ مَيْلِ النَّفْسِ، وَهُمُ الْحُجَّةُ فِيمَا انْتَحَلُوا؛ لِأَنَّ إِجْمَاعَهُمْ إِجْمَاعٌ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ سَأَلَهُ جِبْرِيلُ عَنِ الْإِحْسَان‏:‏ «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ؛ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لِلْعَبْدِ تَحْتَ قَانُونِ الشَّرْعِ فَهُوَ عِبَادَةٌ، وَالَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْمُرَاقَبَةِ يَعْزُبُ عَنْهُ- إِذَا تَلَبَّسَ بِالْعِبَادَةِ- حَظُّ نَفْسِهِ فِيهَا، هَذَا مُقْتَضَى الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ بِأَنْ يَعْزُبَ عَنْهُ كُلُّ مَا سِوَاهَا، وَهُوَ مَعْنًى بَيَّنَهُ أَهْلُهُ كَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِ‏.‏

فَإِذًا لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَهَذَا أَيْضًا جَارٍ فِي الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ كَمَا يَجْرِي فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، وَلَا يَقْدَحُ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي جَرَيَانِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ إِبْرَازُ الْمُسَبَّبِ عَنْ سَبَبِهِ، وَالسَّبَبُ هُوَ الْمُتَضَمِّنُ لَهُ، فَلَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ إِلَّا بِفَوْتِ شَرْطٍ أَوْ جُزْءٍ أَصْلِيٍّ أَوْ تَكْمِيلِيٍّ فِي السَّبَبِ خَاصَّةً‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ‏]‏

وَضْعُ الْأَسْبَابِ يَسْتَلْزِمُ قَصْدَ الْوَاضِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ أَعْنِي الشَّارِعَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَاطِعُونَ بِأَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ تَكُنْ أَسْبَابًا لِأَنْفُسِهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ مَوْجُودَاتٌ فَقَطْ، بَلْ مِنْ حَيْثُ يَنْشَأُ عَنْهَا أُمُورٌ أُخَرُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ لَزِمَ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى وَضْعِهَا أَسْبَابًا الْقَصْدُ إِلَى مَا يَنْشَأُ عَنْهَا مِنَ الْمُسَبَّبَاتِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ، وَهِيَ مُسَبَّبَاتُهَا قَطْعًا، فَإِذَا كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْأَسْبَابَ إِنَّمَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ الْمُسَبَّبَاتِ لَزِمَ مِنَ الْقَصْدِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ‏.‏

وَالثَّالِثُ‏:‏ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَوْ لَمْ تُقْصَدْ بِالْأَسْبَابِ لَمْ يَكُنْ وَضْعُهَا عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ لَكِنَّهَا فُرِضَتْ كَذَلِكَ؛ فَهِيَ وَلَا بُدَّ مَوْضُوعَةٌ عَلَى أَنَّهَا أَسْبَابٌ، وَلَا تَكُونُ أَسْبَابًا إِلَّا لِمُسَبَّبَاتٍ، فَوَاضِعُ الْأَسْبَابِ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ جِهَتِهَا، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَكَانَتِ الْأَسْبَابُ مَقْصُودَةَ الْوَضْعِ لِلشَّارِعِ لَزِمَ أَنْ تَكُونَ الْمُسَبَّبَاتُ كَذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَكَيْفَ هَذَا مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِلشَّارِعِ مِنْ جِهَةِ الْأَمْرِ بِالْأَسْبَابِ‏؟‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْقَصْدَيْنِ مُتَبَايِنَانِ، فَمَا تَقَدَّمَ هُوَ بِمَعْنَى أَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَقْصِدْ فِي التَّكْلِيفِ بِالْأَسْبَابِ التَّكْلِيفَ بِالْمُسَبَّبَاتِ؛ فَإِنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهُنَا إِنَّمَا مَعْنَى الْقَصْدِ إِلَيْهَا أَنَّ الشَّرْعَ يَقْصِدُ وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَلِذَلِكَ وَضَعَهَا أَسْبَابًا، وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ خِطَابِ التَّكْلِيفِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مَا يَقْتَضِي الْقَصْدَ إِلَى مُجَرَّدِ الْوُقُوعِ خَاصَّةً فَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ تَوَارُدُ الْقَصْدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ مُحَالًا إِذَا كَانَا بِاعْتِبَارَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، كَمَا تَوَارَدَ قَصْدُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَعًا عَلَى الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ بِاعْتِبَارَيْنِ‏.‏

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَيْنِ غَيْرُ مُتَدَافِعَيْنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ ‏[‏لِلْمُكَلَّفِ تَرْكُ الْقَصْدِ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَلَهُ الْقَصْدُ أَيْضًا‏]‏

إِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبِ، فَلِلْمُكَلَّفِ تَرْكُ الْقَصْدِ إِلَيْهِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَهُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ‏.‏

أَمَّا الْأَوَّلُ‏:‏ فَمَا تَقَدَّمَ يَدُلُّ عَلَيْهِ‏.‏

فَإِذَا قِيلَ لَكَ‏:‏ لِمَ تَكْتَسِبُ لِمَعَاشِكِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ بِالتِّجَارَةِ أَوْ بِغَيْرِهَا‏؟‏

قُلْتَ‏:‏ لِأَنَّ الشَّارِعَ نَدَبَنِي إِلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ؛ فَأَنَا أَعْمَلُ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُمِرْتُ بِهِ، كَمَا أَنَّهُ أَمَرَنِي أَنْ أُصَلِّيَ، وَأَصُومَ، وَأُزَكِّيَ، وَأَحُجَّ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَعْمَالِ الَّتِي كَلَّفَنِي بِهَا‏.‏

فَإِنْ قِيلَ لَكَ‏:‏ إِنَّ الشَّارِعَ أَمَرَ وَنَهَى لِأَجْلِ الْمَصَالِحِ‏.‏

قُلْتَ‏:‏ نَعَمْ، وَذَلِكَ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَيَّ؛ فَإِنَّ الَّذِي إِلَيَّ التَّسَبُّبُ، وَحُصُولُ الْمُسَبَّبَاتِ لَيْسَ إِلَيَّ، فَأَصْرِفُ قَصْدِي إِلَى مَا جُعِلَ إِلَيَّ، وَأَكِلُ مَا لَيْسَ لِي إِلَى مَنْ هُوَ لَهُ‏.‏

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا أَنَّ السَّبَبَ غَيْرُ فَاعِلٍ بِنَفْسِهِ، بَلْ إِنَّمَا وَقَعَ الْمُسَبَّبُ عِنْدَهُ لَا بِهِ، فَإِذَا تَسَبَّبَ الْمُكَلَّفُ فَاللَّهُ خَالِقُ السَّبَبِ، وَالْعَبْدُ مُكْتَسِبٌ لَهُ ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

‏{‏اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 62‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏التَّكْوِير‏:‏ 29‏]‏‏.‏

‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏ ‏[‏الشَّمْس‏:‏ 7- 8‏]‏‏.‏

وَفِي حَدِيثِ الْعَدْوَى قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ‏؟‏»، وَقَوْلُ عُمَرَ فِي حَدِيثِ الطَّاعُون‏:‏ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ حِينَ قَالَ لَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاص‏:‏ أَفِرَارًا مِنْ قَدَرَ اللَّهِ، وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ، لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ»‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا تَنْتَهِي إِلَى الْقَطْعِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي فِعْلِ السَّبَبِ لَا يَزِيدُ عَلَى تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْمُسَبَّبَ قَدْ يَكُونُ وَقَدْ لَا يَكُونُ، هَذَا وَإِنْ كَانَتْ مَجَارِي الْعَادَاتِ تَقْتَضِي أَنَّهُ يَكُونُ، فَكَوْنُهُ دَاخِلًا تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ، وَقَدْ لَا يَكُونُ، وَنَقْضُ مَجَارِي الْعَادَاتِ دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ، وَأَيْضًا؛ فَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ دَلِيلٌ نَاصٌّ عَلَى طَلَبِ الْقَصْدِ الْمُسَبَّبِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْتِفَاتُهُ إِلَيْهَا، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا مَطْلُوبَةُ الْقَصْدِ مِنَ الْمُكَلَّفِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّكْلِيفِ إِلَّا مُطَابَقَةَ قَصْدِ الْمُكَلَّفِ لِقَصْدِ الشَّارِعِ؛ إِذْ لَوْ خَالَفَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّكْلِيفُ كَمَا تَبَيَّنَ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، فَإِذَا طَابَقَهُ صَحَّ، فَإِذَا فَرَضْنَا هَذَا الْمُكَلَّفَ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْمُسَبَّبَاتِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهَا مَقْصُودَةً لِلشَّارِعِ؛ كَانَ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لَهُ، وَكُلُّ تَكْلِيفٍ قَدْ خَالَفَ الْقَصْدُ فِيهِ قَصْدَ الشَّارِعِ فَبَاطِلٌ، كَمَا تَبَيَّنَ فَهَذَا كَذَلِكَ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَلْزَمُ إِذَا فَرَضْنَا أَنَّ الشَّارِعَ قَصَدَ وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ بِالتَّكْلِيفِ بِهَا كَمَا قَصَدَ ذَلِكَ بِالْأَسْبَابِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِمَا مَرَّ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهَا، وَإِنَّمَا قَصْدُهُ وُقُوعُ الْمُسَبَّبَاتِ بِحَسَبِ ارْتِبَاطِ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ فِي الْخَلْقِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ خَلْقُ الْمُسَبَّبَاتِ عَلَى أَثَرِ إِيقَاعِ الْمُكَلَّفِ لِلْأَسْبَابِ لِيَسْعَدَ مَنْ سَعِدَ، وَيَشْقَى مَنْ شَقِيَ، فَإِذًا قَصْدُ الشَّارِعِ لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ لَا ارْتِبَاطَ لَهُ بِالْقَصْدِ التَّكْلِيفِيِّ؛ فَلَا يَلْزَمُ قَصْدُ الْمُكَلَّفِ إِلَيْهِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْقَصْدَ إِلَى ذَلِكَ قَصْدٌ إِلَى مَا هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ، وَلَا يُلْزَمُ أَحَدًا أَنْ يَقْصِدَ وُقُوعَ مَا هُوَ فِعْلُ الْغَيْرِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِفِعْلِ الْغَيْرِ، وَإِنَّمَا يُكَلَّفُ بِمَا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ، وَهُوَ السَّبَبُ خَاصَّةً؛ فَهُوَ الَّذِي يَلْزَمُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ أَوْ يُطْلَبُ الْقَصْدُ إِلَيْهِ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ مُوَافَقَةُ قَصْدِ الشَّارِعِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏لِلْمُكَلَّفِ قَصْدُ الْمُسَبَّبِ‏]‏

وَأَمَّا أَنَّ لِلْمُكَلَّفِ الْقَصْدَ إِلَى الْمُسَبَّبِ فَكَمَا إِذَا قِيلَ لَكَ‏:‏ لِمَ تَكْتَسِبُ‏؟‏ قُلْتَ‏:‏ لِأُقِيمَ صُلْبِي، وَأَقُومَ فِي حَيَاةِ نَفْسِي وَأَهْلِي أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَصَالِحِ الَّتِي تُوجَدُ عَنِ السَّبَبِ، فَهَذَا الْقَصْدُ إِذَا قَارَنَ التَّسَبُّبَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى الْعَادَاتِ الْجَارِيَةِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏الْجَاثِيَة‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ ‏[‏الرُّوم‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الْجُمُعَة‏:‏ 10‏]‏‏.‏

فَمِنْ حَيْثُ عَبَّرَ بِالْقَصْدِ إِلَى الْفَضْلِ عَنِ الْقَصْدِ إِلَى السَّبَبِ الَّذِي هُوَ الِاكْتِسَابُ، وَسِيقَ مَسَاقَ الِامْتِنَانِ مِنْ غَيْرِ إِنْكَارٍ، أَشْعَرَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ الْقَصْدِ، وَهَذَا جَارٍ فِي أُمُورِ الْآخِرَةِ كَمَا هُوَ جَارٍ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ‏}‏ ‏[‏الطَّلَاق‏:‏ 11‏]‏، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يُؤْذِنُ بِصِحَّةِ الْقَصْدِ إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّمَا مَحْصُولُ هَذَا أَنْ يُبْتَغَى مَا يُهَيِّئُ اللَّهُ لَهُ بِهَذَا السَّبَبِ، فَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ وَاللَّجَأِ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرْزُقَهُ مُسَبَّبًا يَقُومُ بِهِ أَمْرُهُ، وَيَصْلُحُ بِهِ حَالُهُ، وَهَذَا لَا نَكِيرَ فِيهِ شَرْعًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَعْلُومَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أَنَّهُ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَالتَّكْلِيفُ كُلُّهُ إِمَّا لِدَرْءِ مَفْسَدَةٍ، وَإِمَّا لِجَلْبِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَهُمَا مَعًا، فَالدَّاخِلُ تَحْتَهُ مُقْتَضٍ لِمَا وُضِعَتْ لَهُ، فَلَا مُخَالَفَةَ فِي ذَلِكَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَالْمَحْظُورُ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقْصِدَ خِلَافَ مَا قَصَدَهُ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْقَصْدَ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَمَلٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلشَّارِعِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَقْدٌ مُخَالِفٌ، فَالْفِعْلُ مُوَافِقٌ، وَالْقَصْدُ مُوَافِقٌ، فَالْمَجْمُوعُ مُوَافِقٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَلْ يَسْتَتِبُّ هَذَانِ الْوَجْهَانِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّةِ، وَالْعِبَادِيَّةِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِئِ الرَّأْيِ أَنَّ قَصْدَ الْمُسَبَّبَاتِ لَازِمٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، لِظُهُورِ وُجُوهِ الْمَصَالِحِ فِيهَا بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى عَدَمِ مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى؛ فَهُنَالِكَ يَسْتَتِبُّ عَدَمُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الْمُعَلَّلَ بِهَا رَاجِعَةٌ إِلَى جِنْسِ الْمَصَالِحِ فِيهَا أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَهِيَ ظَاهِرَةٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، وَغَيْرُ ظَاهِرَةٍ فِي الْعِبَادِيَّاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَالْقَصْدُ إِلَيْهَا مُعْتَبَرٌ فِي الْعَادِيَّاتِ، وَلَا سِيَّمَا فِي الْمُجْتَهِدِ؛ فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ إِنَّمَا يَتَّسِعُ مَجَالُ اجْتِهَادِهِ بِإِجْرَاءِ الْعِلَلِ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ إِجْرَاءُ الْأَحْكَامِ عَلَى وَفْقِ الْمَصَالِحِ إِلَّا بِنَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ فَيَبْطُلُ الْقِيَاسُ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمَعَانِي الَّتِي شُرِعَتْ لَهَا الْأَحْكَامُ، وَالْمَعَانِي هِيَ مُسَبَّبَاتُ الْأَحْكَامِ، أَمَّا الْعِبَادِيَّاتُ فَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهَا فَقْدَ ظُهُورِ الْمَعَانِي الْخَاصَّةِ بِهَا، وَالرُّجُوعَ إِلَى مُقْتَضَى النُّصُوصِ فِيهَا، كَانَ تَرْكُ الِالْتِفَاتِ أَجْرَى عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ فِيهَا، وَالْأَمْرَانِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُقَلِّدِ سَوَاءٌ، فِي أَنَّ حَقَّهُ أَنْ لَا يَلْتَفِتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ إِلَّا فِيمَا كَانَ مِنْ مُدْرَكَاتِهِ وَمَعْلُومَاتِهِ الْعَادِيَّةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَمْرَيْنِ فِي الِالْتِفَاتِ وَعَدَمِهِ سَوَاءٌ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إِذَا نَظَرَ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عَدَّى الْحُكْمَ بِهَا إِلَى مَحَلٍّ هِيَ فِيهِ؛ لِتَقَعَ الْمَصْلَحَةُ الْمَشْرُوعُ لَهَا الْحُكْمُ، هَذَا نَظَرُهُ خَاصَّةً، وَيَبْقَى قَصْدُهُ إِلَى حُصُولِهَا بِالْعَمَلِ أَوْ عَدَمِ الْقَصْدِ مَسْكُوتًا عَنْهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ، فَتَارَةً يَقْصِدُ إِذَا كَانَ هُوَ الْعَامِلَ وَتَارَةً لَا يَقْصِدُ، وَفِي الْوَجْهَيْنِ لَا يَفُوتُهُ فِي اجْتِهَادِهِ أَمْرٌ كَالْمُقَلِّدِ سَوَاءً، فَإِذَا سَمِعَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «لَا يَقْضِي الْقَاضِي وَهُوَ غَضْبَانُ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ نَظَرَ إِلَى عِلَّةِ مَنْعِ الْقَضَاءِ، فَرَآهُ الْغَضَبَ، وَحِكْمَتُهُ تَشْوِيشُ الذِّهْنِ عَنِ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ بَيْنَ الْخُصُومِ، فَأَلْحَقَ بِالْغَضَبِ الْجُوعَ وَالشِّبَعَ الْمُفْرِطَيْنِ، وَالْوَجَعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ تَشْوِيشُ الذِّهْنِ، فَإِذَا وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَكَانَ قَاضِيًا امْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ بِمُقْتَضَى النَّهْيِ؛ فَإِنْ قَصَدَ بِالِانْتِهَاءِ مُجَرَّدَ النَّهْيِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي لِأَجْلِهَا نُهِيَ عَنِ الْقَضَاءِ؛ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْهُ الْقَاضِي، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ مَا ظَهَرَ قَصْدُ الشَّارِعِ إِلَيْهِ مِنْ مَفْسَدَةِ عَدَمِ اسْتِيفَاءِ الْحِجَاجِ؛ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّارِعِ أَيْضًا فَاسْتَوَى قَصْدُ الْقَاضِي إِلَى الْمُسَبَّبِ وَعَدَمُ قَصْدِهِ، وَهَكَذَا الْمُقَلِّدُ فِيمَا فَهِمَ حِكْمَتَهُ مِنَ الْأَعْمَالِ، وَمَا لَمْ يَفْهَمْ؛ فَهُوَ كَالْعِبَادَاتِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْجَمِيعِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْعِبَادَاتِ وُضِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَيَصِحَّ الْقَصْدُ إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَالْقَصْدُ إِلَيْهَا أَوْ عَدَمُ الْقَصْدِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ‏:‏ ‏[‏مَرَاتِبُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ‏]‏

إِذَا تَقَرَّرَ مَا تَقَدَّمَ؛ فَلِلدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ مَرَاتِبُ تَتَفَرَّعُ عَلَى الْقِسْمَيْنِ؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ‏:‏ أَحَدُهَا‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا عَلَى أَنَّهُ فَاعِلٌ لِلْمُسَبَّبِ أَوْ مُوَلِّدٌ لَهُ؛ فَهَذَا شِرْكٌ أَوْ مُضَاهٍ لَهُ- وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ- وَالسَّبَبُ غَيْرُ فَاعِلٍ بِنَفْسِهِ، وَاللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، ‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّات‏:‏ 96‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي، وَكَافِرٌ» الْحَدِيثَ؛ فَإِنَّ الْمُؤْمِنَ بِالْكَوْكَبِ الْكَافِرَ بِاللَّهِ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْكَوْكَبَ ‏[‏فَاعِلًا بِنَفْسِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ تَوَلَّى النَّظَرَ فِيهَا أَرْبَابُ الْكَلَامِ‏]‏‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ عَلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ يَكُونُ عِنْدَهُ عَادَةً، وَهَذَا هُوَ الْمُتَكَلَّمُ عَلَى حُكْمِهِ قَبْلُ؛ وَمَحْصُولُهُ طَلَبُ الْمُسَبَّبِ عَنِ السَّبَبِ لَا بِاعْتِقَادِ الِاسْتِقْلَالِ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لِمُسَبَّبٍ، فَالسَّبَبُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِمُسَبَّبٍ لِأَنَّهُ مَعْقُولُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ سَبَبًا؛ فَالِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ لَيْسَ بِخَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى عَادَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَلَا هُوَ مُنَافٍ لِكَوْنِ السَّبَبِ وَاقِعًا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى؛ فَإِنَّ قُدْرَةَ اللَّهِ تَظْهَرُ عِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ، وَعِنْدَ عَدَمِهِ فَلَا يَنْفِي وُجُودَ السَّبَبِ كَوْنُهُ خَالِقًا لِلْمُسَبَّبِ، لَكِنْ هُنَا قَدْ يَغْلِبُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ حَتَّى يَكُونَ فَقْدُ الْمُسَبَّبِ مُؤَثِّرًا وَمُنْكِرًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَادَةَ غَلَبَتْ عَلَى النَّظَرِ فِي السَّبَبِ بِحُكْمِ كَوْنِهِ سَبَبًا، وَلَمْ يَنْظُرْ إِلَى كَوْنِهِ مَوْضُوعًا بِالْجَعْلِ لَا مُقْتَضِيًا بِنَفْسِهِ، وَهَذَا هُوَ غَالِبُ أَحْوَالِ الْخَلْقِ فِي الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ‏.‏

وَالثَّالِثَةُ‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ عَلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُ الْمُسَبَّبُ فَيَكُونُ الْغَالِبُ عَلَى صَاحِبِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ اعْتِقَادَ أَنَّهُ مُسَبَّبٌ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْكِيمٍ لِكَوْنِهِ سَبَبًا؛ فَإِنَّهُ لَوْ صَحَّ كَوْنُهُ سَبَبًا مُحَقَّقًا لَمْ يَتَخَلَّفْ كَالْأَسْبَابِ الْعَقْلِيَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ؛ تَمَحَّضَ جَانِبُ التَّسْبِيبِ الرَّبَّانِيِّ بِدَلِيلِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ، وَهُنَا يُقَالُ لِمَنْ حَكَّمَهُ‏:‏ فَالسَّبَبُ الْأَوَّلُ عَنْ مَاذَا تَسَبَّبَ‏؟‏، وَفِي مِثْلِهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ‏؟‏»‏.‏

فَإِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَعَ الْمُسَبَّبَاتِ دَاخِلَةً تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ؛ فَاللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ لَا هِيَ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ فِي مُلْكِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُبَيَّنٌ فِي عِلْمِ الْكَلَامِ، وَحَاصِلُهُ يَرْجِعُ إِلَى عَدَمِ اعْتِبَارِ السَّبَبِ فِي الْمُسَبَّبِ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ، وَاعْتِبَارِهِ فِيهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اللَّهَ مُسَبِّبُهُ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَرَاتِبُ تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ‏]‏

وَتَرْكُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبِ لَهُ ثَلَاثُ مَرَاتِبَ‏:‏

إِحْدَاهَا‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ ابْتِلَاءٌ لِلْعِبَادِ، ‏[‏وَامْتِحَانٌ لَهُمْ، لِيَنْظُرَ كَيْفَ يَعْمَلُونَ مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَسْبَابَ وَالْمُسَبَّبَاتِ مَوْضُوعَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ ابْتِلَاءً لِلْعِبَادِ‏]‏، وَامْتِحَانًا لَهُمْ؛ فَإِنَّهَا طَرِيقٌ إِلَى السَّعَادَةِ أَوِ الشَّقَاوَةِ، وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا وُضِعَ لِابْتِلَاءِ الْعُقُولِ، وَذَلِكَ الْعَالَمُ كُلُّهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ مَنْظُورٌ فِيهِ، وَصَنْعَةٌ يُسْتَدَلُّ بِهَا عَلَى مَا وَرَاءَهَا‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا وُضِعَ لِابْتِلَاءِ النُّفُوسِ، وَهُوَ الْعَالَمُ كُلُّهُ أَيْضًا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُوصِلٌ إِلَى الْعِبَادِ الْمَنَافِعَ وَالْمَضَارَّ، وَمِنْ حَيْثُ هُوَ مُسَخَّرٌ لَهُمْ، وَمُنْقَادٌ لِمَا يُرِيدُونَ فِيهِ، لِتَظْهَرَ تَصَارِيفُهُمْ تَحْتَ حُكْمِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَلِتَجْرِيَ أَعْمَالُهُمْ تَحْتَ حُكْمِ الشَّرْعِ؛ لِيَسْعَدَ بِهَا مَنْ سَعِدَ وَيَشْقَى مَنْ شَقِيَ، وَلِيَظْهَرَ مُقْتَضَى الْعِلْمِ السَّابِقِ، وَالْقَضَاءِ الْمُحَتَّمِ الَّذِي لَا مَرَدَّ لَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ، وَمُنَزَّهٌ عَنِ الِافْتِقَارِ فِي صُنْعِ مَا يَصْنَعُ إِلَى الْأَسْبَابِ وَالْوَسَائِطِ، لَكِنْ وَضَعَهَا لِلْعِبَادِ لِيَبْتَلِيَهُمْ فِيهَا‏.‏

وَالْأَدِلَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ، كَقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الْمُلْك‏:‏ 2‏]‏‏.‏

‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 7‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏يُونُسَ‏:‏ 14‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 12‏]‏‏.‏

‏{‏وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 142‏]‏‏.‏

‏{‏وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 154‏]‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 152‏]‏‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ وَضْعَ الْأَسْبَابِ، إِنَّمَا هِيَ لِلِابْتِلَاءِ فَإِذَا كَانَتْ كَذَلِكَ؛ فَالْآخِذُ لَهَا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ آخِذٌ لَهَا مِنْ حَيْثُ وُضِعَتْ مَعَ التَّحَقُّقِ بِذَلِكَ فِيهَا، وَهَذَا صَحِيحٌ، وَصَاحِبُ هَذَا الْقَصْدِ مُتَعَبِّدٌ لِلَّهِ بِمَا تَسَبَّبَ بِهِ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ إِذَا تَسَبَّبَ بِالْإِذْنِ فِيمَا أَذِنَ فِيهِ لِتَظْهَرَ عُبُودِيَّتُهُ لِلَّهِ فِيهِ، لَا مُلْتَفِتًا إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا، وَإِنِ انْجَرَّتْ مَعَهَا فَهُوَ كَالْمُتَسَبِّبِ بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ‏.‏

وَالثَّانِيَةُ‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ بِحُكْمِ قَصْدِ التَّجَرُّدِ عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ مِنْ حَيْثُ هِيَ أُمُورٌ مُحْدَثَةٌ، فَضْلًا عَنِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ تَفْرِيدَ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ أَنْ لَا يُشْرَكَ مَعَهُ فِي قَصْدِهِ سِوَاهُ، وَاعْتِمَادًا عَلَى أَنَّ التَّشْرِيكَ خُرُوجٌ عَنْ خَالِصِ التَّوْحِيدِ بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِالْتِفَاتِ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بَقَاءٌ مَعَ الْمُحْدَثَاتِ، وَرُكُونٌ إِلَى الْأَغْيَارِ، وَهُوَ تَدْقِيقٌ فِي نَفْيِ الشِّرْكَةِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي مَوْضِعِهِ صَحِيحٌ، وَيَشْهَدُ لَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ مَا دَلَّ عَلَى نَفْيِ الشِّرْكَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا‏}‏ ‏[‏الْكَهْف‏:‏ 110‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ‏}‏ ‏[‏الزُّمَر‏:‏ 2- 3‏]‏‏.‏

وَسَائِرِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الْبَابِ، وَكَذَلِكَ دَلَائِلُ طَلَبِ الصِّدْقِ فِي التَّوَجُّهِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كُلُّ ذَلِكَ يُشْعِرُ بِهَذَا الْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطِ فِي خُلُوصِ التَّوَجُّهِ، وَصِدْقِ الْعُبُودِيَّةِ، فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مُتَعَبِّدٌ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْأَسْبَابِ الْمَوْضُوعَةِ عَلَى اطِّرَاحِ النَّظَرِ فِيهَا مِنْ جِهَتِهِ، فَضْلًا عَنْ أَنْ يَنْظُرَ فِي مُسَبَّبَاتِهَا؛ فَإِنَّمَا يَرْجِعُ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ وَسَائِلُ إِلَى مُسَبِّبِهَا وَوَاضِعِهَا، وَسُلَّمٌ إِلَى التَّرَقِّي لِمَقَامِ الْقُرْبِ مِنْهُ؛ فَهُوَ إِنَّمَا يَلْحَظُ فِيهَا الْمُسَبِّبَ خَاصَّةً‏.‏

وَالثَّالِثَةُ‏:‏ أَنْ يَدْخُلَ فِي السَّبَبِ بِحُكْمِ الْإِذْنِ الشَّرْعِيِّ مُجَرَّدًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَوَجُّهُهُ فِي الْقَصْدِ إِلَى السَّبَبِ؛ تَلْبِيَةً لِلْأَمْرِ لِتَحَقُّقِهِ بِمَقَامِ الْعُبُودِيَّةِ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي السَّبَبِ أَوْ أَمَرَ بِهِ لَبَّاهُ مِنْ حَيْثُ قَصْدُ الْآمِرِ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ، وَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ مُسَبِّبُهُ، وَأَنَّهُ أَجْرَى الْعَادَةَ بِهِ، وَلَوْ شَاءَ لَمْ يُجْرِهَا، كَمَا أَنَّهُ قَدْ يَخْرِقُهَا إِذَا شَاءَ، وَعَلَى أَنَّهُ ابْتِلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَعَلَى أَنَّهُ يَقْتَضِي صِدْقَ التَّوَجُّهِ بِهِ إِلَيْهِ، فَدَخَلَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، فَصَارَ هَذَا الْقَصْدُ شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّهُ تَوَخَّى قَصْدَ الشَّارِعِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي غَيْرِهِ، وَقَدْ عَلِمَ قَصْدَهُ فِي تِلْكَ الْأُمُورِ، فَحَصَلَ لَهُ كُلُّ مَا فِي ضِمْنِ ذَلِكَ التَّسَبُّبِ مِمَّا عَلِمَ وَمِمَّا لَمْ يَعْلَمْ، فَهُوَ طَالِبٌ لِلْمُسَبَّبِ مِنْ طَرِيقِ السَّبَبِ، وَعَالِمٌ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُسَبِّبُ، وَهُوَ الْمُبْتَلِي بِهِ، وَمُتَحَقِّقٌ فِي صِدْقِ التَّوَجُّهِ بِهِ إِلَيْهِ، فَقَصْدُهُ مُطْلَقٌ وَإِنْ دَخَلَ فِيهِ قَصْدُ الْمُسَبَّبِ، لَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْأَغْيَارِ، مُصَفًّى مِنَ الْأَكْدَارِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ‏:‏ ‏[‏الدُّخُولُ فِي السَّبَبِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَغَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَرَفْعُ التَّسَبُّبِ‏]‏

الدُّخُولُ فِي الْأَسْبَابِ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ لَا‏.‏

فَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَلَا إِشْكَالَ فِي طَلَبِ رَفْعِ ‏[‏ذَلِكَ‏]‏ التَّسَبُّبِ؛ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَكَانَ الْمُتَسَبِّبُ قَاصِدًا لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبِ أَمْ لَا؛ فَإِنَّهُ يَتَأَتَّى مِنْهُ الْأَمْرَانِ فَقَدْ يَقْصِدُ بِالْقَتْلِ الْعُدْوَانِ إِزْهَاقَ الرُّوحِ فَيَقَعُ، وَقَدْ يَقْصِدُ بِالْغَصْبِ انْتِفَاعَهُ بِالْمَغْصُوبِ فَيَقَعُ عَلَى مُقْتَضَى الْعَادَةِ لَا عَلَى مُقْتَضَى الشَّرْعِ، وَقَدْ لَا يَقَعُ أَلْبَتَّةَ، وَقَدْ يَعْزُبُ عَنْ نَظَرِهِ الْقَصْدُ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَالِالْتِفَاتُ إِلَيْهِ؛ لِعَارِضٍ يَطْرَأُ غَيْرِ الْعَارِضِ الْمُتَقَدِّمِ الذِّكْرِ، وَلَا اعْتِبَارَ بِهِ‏.‏

وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَلَا يُطْلَبُ رَفْعُ التَّسَبُّبِ فِي الْمَرَاتِبِ الْمَذْكُورَةِ كُلِّهَا‏.‏

أَمَّا الْأُولَى؛ فَإِذَا فَرَضْنَا نَفْسَ التَّسَبُّبِ مُبَاحًا أَوْ مَطْلُوبًا عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَاعْتِقَادُ الْمُعْتَقِدِ- لِكَوْنِ السَّبَبِ هُوَ الْفَاعِلَ- مَعْصِيَةٌ قَارَنَتْ مَا هُوَ مُبَاحٌ أَوْ مَطْلُوبٌ فَلَا يُبْطِلُهُ، إِلَّا إِنْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ مُفْسِدَةٌ، وَإِنَّ الْمُقَارِنَ لِلْمَعْصِيَةِ تُصَيِّرُهُ مَنْهِيًّا عَنْهُ؛ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ، وَالذَّبْحِ بِالْمُدْيَةِ الْمَغْصُوبَةِ، وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي الْأُصُولِ‏.‏

وَأَمَّا الثَّانِيَةُ‏:‏ فَظَاهِرٌ أَنَّ التَّسَبُّبَ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ فِيهَا إِذَا اعْتَمَدَ عَلَى جَرَيَانِ الْعَادَاتِ، وَكَانَ الْغَالِبُ فِيهَا وُقُوعَ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا، وَغَلَبَ عَلَى الظَّنِّ ذَلِكَ، كَانَ تَرْكُ التَّسَبُّبِ كَإِلْقَاءٍ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَوْ هُوَ هُوَ، وَكَذَلِكَ إِذَا بَلَغَ مَبْلَغَ الْقَطْعِ الْعَادِيِّ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَتَسَبَّبَ، وَلِأَجْلِ هَذَا قَالُوا فِي الْمُضْطَرّ‏:‏ إِنَّهُ إِذَا خَافَ الْهَلَكَةَ، وَجَبَ عَلَيْهِ السُّؤَالُ أَوِ الِاسْتِقْرَاضُ أَوْ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ نَفْسَهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَسْرُوقٌ‏:‏ وَمَنِ اضْطُرَّ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ دَخَلَ النَّارَ‏.‏

وَأَمَّا الثَّالِثَةُ‏:‏ فَالتَّسَبُّبُ أَيْضًا ظَاهِرٌ، إِلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهَا بَحْثٌ‏:‏ هَلْ يَكُونُ صَاحِبُهَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْمَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ أَمْ لَا‏؟‏ هَذَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ، وَإِطْلَاقُ كَلَامِ الْفُقَهَاءِ يَقْتَضِي عَدَمَ التَّفْرِقَةِ، وَأَحْوَالُ الْمُتَوَكِّلِينَ مِمَّنْ دَخَلَ تَحْتَ تَرْجَمَةِ التَّصَوُّفِ لَا تَقْتَضِي ذَلِكَ، هَذَا وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْغَزَالِيِّ تَسَاوِي الْمَرْتَبَتَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، كَطَرِيقَةِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُ فِي ذَلِكَ، فَالَّذِي يَظْهَرُ فِي الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ آخَرُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ تَكُونُ عِلْمِيَّةً، وَتَكُونُ حَالِيَّةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِلْمِ وَالْحَالِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِهِ، فَإِذَا كَانَتْ عِلْمِيَّةً، فَهِيَ الْمَرْتَبَةُ الثَّانِيَةُ؛ إِذْ كَانَ وَاجِبًا عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ فَاعِلَةٍ بِأَنْفُسِهَا، وَإِنَّمَا الْفَاعِلُ فِيهَا مُسَبِّبُهَا سُبْحَانَهُ، لَكِنَّ عَادَتَهُ فِي خَلْقِهِ جَارِيَةٌ بِمُقْتَضَى الْعَوَائِدِ الْمُطَّرِدَةِ، وَقَدْ يَخْرِقُهَا إِذَا شَاءَ لِمَنْ شَاءَ، فَمِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَادَةً اقْتَضَتِ الدُّخُولَ فِي الْأَسْبَابِ، وَمِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَسْبَابُ فِيهَا بِيَدِ خَالِقِ الْمُسَبَّبَاتِ، اقْتَضَتْ أَنَّ لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَ بِهَا وَبِدُونِهَا، فَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ؛ فَإِنْ غَلَبَ الطَّرَفُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ الْعَادِيُّ فَهُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ غَلَبَ الثَّانِي فَصَاحِبُهُ مَعَ السَّبَبِ أَوْ بِدُونِهِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ فَإِنَّهُ إِذَا جَاعَ مَثَلًا فَأَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ أَتَسَبَّبَ أَمْ لَا؛ إِذْ هُوَ عَلَى بَيِّنَةٍ أَنَّ السَّبَبَ كَالْمُسَبَّبِ بِيَدِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ- وَالْحَالُ هَذِهِ- أَنَّ تَرْكَهُ لِلسَّبَبِ إِلْقَاءٌ بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ عَقْدُهُ فِي كِلْتَا الْحَالَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏؛ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَبُّبُ فِي رَفْعِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِأَنَّ السَّبَبَ فِي يَدِ الْمُسَبِّبِ أَغْنَاهُ عَنْ تَطَلُّبِ الْمُسَبَّبِ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى التَّعَيُّنِ، بَلِ السَّبَبُ وَعَدَمُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَكَمَا أَنَّ أَخْذَهُ لِلسَّبَبِ لَا يُعَدُّ إِلْقَاءً بِالْيَدِ إِذَا كَانَ اعْتِمَادُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ، كَذَلِكَ فِي التَّرْكِ، وَلَوْ فُرِضَ أَنَّ آخِذَ السَّبَبِ أَخَذَهُ بِإِسْقَاطِ الِاعْتِمَادِ عَلَى الْمُسَبِّبِ لَكَانَ إِلْقَاءً بِالْيَدِ إِلَى التَّهْلُكَةِ؛ لِأَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ، وَلَيْسَ فِي السَّبَبِ نَفْسِهِ مَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَوْضُوعًا سَبَبًا؛ فَكَذَلِكَ إِذَا تُرِكَ السَّبَبُ لَا لِشَيْءٍ، فَالسَّبَبُ وَعَدَمُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ فِي عَقْدِ الْإِيمَانِ، وَحَقَائِقِ الْإِيقَانِ‏.‏

وَكُلُّ أَحَدٍ فَقِيهُ نَفْسِهِ، وَقَدْ مَرَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيث‏:‏ «جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَلَوِ اجْتَمَعَ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ»، وَحَكَى عِيَاضٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ نَصْرٍ السُّوسِيِّ- مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ- أَنَّ ابْنَهُ قَالَ لَهُ فِي سَنَةٍ غَلَا فِيهَا السِّعْرُ‏:‏ يَا أَبَتِ اشْتَرِ طَعَامًا؛ فَإِنِّي أَرَى السِّعْرَ قَدْ غَلَا، فَأَمَرَ بِبَيْعِ مَا كَانَ فِي دَارِهِ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِه‏:‏ لَسْتَ مِنَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ، وَأَنْتَ قَلِيلُ الْيَقِينِ، كَأَنَّ الْقَمْحَ إِذَا كَانَ عِنْدَ أَبِيكَ يُنْجِيكَ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ عَلَيْكَ، مَنْ تَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ؛ كَفَاهُ اللَّهُ‏.‏

وَنَظِيرُ مَسْأَلَتِنَا فِي الْفِقْهِ؛ الْغَازِي إِذَا حَمَلَ وَحْدَهُ عَلَى جَيْشِ الْكُفَّارِ، فَالْفُقَهَاءُ يُفَرِّقُونَ بَيْنَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ أَوِ الْهَلَكَةُ أَوْ يَقْطَعُ بِإِحْدَاهُمَا؛ فَالَّذِي اعْتَقَدَ السَّلَامَةَ جَائِزٌ لَهُ مَا فَعَلَ، وَالَّذِي اعْتَقَدَ الْهَلَكَةَ مِنْ غَيْرِ نَفْعٍ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ، وَيَسْتَدِلُّونَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ‏}‏ ‏[‏الْبَقَرَة‏:‏ 195‏]‏‏.‏

وَكَذَلِكَ؛ دَاخِلُ الْمَفَازَةِ بِزَادٍ أَوْ بِغَيْرِ زَادٍ، إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّلَامَةُ فِيهَا جَازَ لَهُ الْإِقْدَامُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْهَلَكَةَ لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ إِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُصُولُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ أُمِرَ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا يَتَيَمَّمُ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنْ لَا مَاءَ يَتَيَمَّمُ وَكَذَلِكَ رَاكِبُ الْبَحْرِ، وَعَلَى هَذَا يُبَاحُ لَهُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ فِي رَحْلِهِ أَوْ يُمْنَعُ، وَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْوُصُولُ إِلَى الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ، وَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّ الْمَرِيضِ زِيَادَةُ الْمَرَضِ أَوْ تَأَخُّرِ الْبُرْءِ أَوْ إِصَابَةُ الْمَشَقَّةِ بِالصَّوْمِ أَفْطَرَ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى غَلَبَاتِ الظُّنُونِ، وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَاتُ الظُّنُونِ تَخْتَلِفُ؛ فَذَلِكَ غَيْرُ قَادِحٍ فِي هَذَا الْأَصْلِ، فَمَسْأَلَتُنَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ‏.‏

فَمَنْ تَحَقَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ عَنِ السَّبَبِ كَالدُّخُولِ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى ضَمَانِ اللَّهِ تَعَالَى الرِّزْقَ صَحَّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّسَبُّبُ فِيهِ، وَلِذَلِكَ نَجِدُ أَصْحَابَ الْأَحْوَالِ يَرْكَبُونَ الْأَهْوَالَ وَيَقْتَحِمُونَ الْأَخْطَارَ، وَيُلْقُونَ بِأَيْدِيهِمْ إِلَى مَا هُوَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ تَهْلُكَةٌ؛ فَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مَوَاطِنِ الْغَرَرِ، وَأَسْبَابِ الْهَلَكَةِ، يَسْتَوِي مَعَ مَا هُوَ عِنْدَنَا مِنْ مَوَاطِنِ الْأَمْنِ، وَأَسْبَابِ النَّجَاةِ‏.‏

وَقَدْ حَكَى عِيَاضٌ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ الْإِبَّيَانِيِّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ عَطِيَّةُ الْجَزَرِيُّ الْعَابِدُ فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَتَيْتُكَ زَائِرًا، وَمُوَدِّعًا إِلَى مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس‏:‏ لَا تُخْلِنَا مِنْ بَرَكَةِ دُعَائِكَ وَبَكَى، وَلَيْسَ مَعَ عَطِيَّةَ رَكْوَةٌ وَلَا مِزْوَدٌ، فَخَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ، ثُمَّ أَتَاهُ بِأَثَرِ ذَلِكَ رَجُلٌ؛ فَقَالَ لَهُ‏:‏- أَصْلَحَكَ اللَّهُ- عِنْدِي خَمْسُونَ مِثْقَالًا، وَلِي بَغْلٌ فَهَلْ تَرَى لِي الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ‏؟‏ فَقَالَ لَهُ‏:‏ لَا تَعْجَلْ حَتَّى تُوَفِّرَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ‏.‏ قَالَ الرَّاوِي‏:‏ فَعَجِبْنَا مِنَ اخْتِلَافِ جَوَابِهِ لِلرَّجُلَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمَا؛ فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس‏:‏ عَطِيَّةُ جَاءَنِى مُوَدِّعًا غَيْرَ مُسْتَشِيرٍ وَقَدْ وَثِقَ بِاللَّهِ، وَجَاءَنِي هَذَا يَسْتَشِيرُنِي، وَيَذْكُرُ مَا عِنْدَهُ، فَعَلِمْتُ ضَعْفَ نِيَّتِهِ، فَأَمَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُمْ‏.‏

فَهَذَا إِمَامٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَفْتَى لِضَعِيفِ النِّيَّةِ بِالْحَزْمِ فِي اسْتِعْدَادِ الْأَسْبَابِ، وَالنَّظَرِ فِي مُرَاعَاتِهَا، وَسَلَّمَ لِقَوِيِّ الْيَقِينِ فِي طَرْحِ الْأَسْبَابِ بِنَاءً- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- عَلَى الْقَاعِدَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي الِاعْتِقَادَاتِ، وَغَلَبَاتِ الظُّنُونِ فِي السَّلَامَةِ، وَالْهَلَكَةِ، وَهُوَ مَظَانُّ النَّظَرِ الْفِقْهِيِّ، وَلِذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي النَّازِلَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَصَاحِبُ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَفْضَلُ لَهُ‏؟‏ الدُّخُولُ فِي السَّبَبِ، أَمْ تَرْكُهُ‏؟‏

فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ الْأَسْبَابَ فِي حَقِّهِ لَا بُدَّ مِنْهَا كَمَا أَنَّهَا كَذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؛ فَإِنَّ خَوَارِقَ الْعَادَاتِ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُ مَقَامَ الْأَسْبَابِ فِي حَقِّهِ، فَهِيَ فِي أَنْفُسِهَا أَسْبَابٌ، لَكِنَّهَا أَسْبَابٌ غَرِيبَةٌ، وَالتَّسَبُّبُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْهُورَةِ، فَالْخَارِجُ مَثَلًا لِلْحَجِّ بِغَيْرِ زَادٍ يَرْزُقُهُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ، إِمَّا مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، وَإِمَّا مِنْ جِهَةِ مَنْ يَلْقَى مِنَ النَّاسِ فِي الْبَادِيَةِ، وَفِي الصَّحْرَاءِ، وَإِمَّا مِنْ حَيَوَانِ الصَّحْرَاءِ أَوْ مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ، أَوْ يُخْرِجَهُ مِنَ الْأَرْضِ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ أَسْبَابٌ جَارِيَةٌ، يَعْرِفُهَا أَرْبَابُهَا الْمَخْصُوصُونَ بِهَا، فَلَيْسَ هَذَا الرَّجُلُ خَارِجًا عَنِ الْعَمَلِ بِالْأَسْبَابِ، وَمِنْهَا الصَّلَاةُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏طه‏:‏ 132‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ إِذَا لَمْ يَجِدُوا قُوتًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالسُّؤَالُ غَيْرُ وَارِدٍ‏.‏

وَالثَّانِي- عَلَى تَسْلِيمِ وُرُودِهِ-‏:‏ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْلَمُ قَطْعًا أَنَّهُمْ حَازُوا هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ، وَاسْتَيْقَنُوهَا حَالًا وَعِلْمًا، وَلَكِنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَدَبَهُمْ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا، كَمَا أَمَرَهُمْ بِالْأَسْبَابِ الْمُقْتَضِيَةِ لِمَصَالِحِ الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ مَعَ هَذِهِ الْحَالَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ لَا يُعْتَدُّ بِهَا مَقَامًا يَقُومُ فِيهِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «قَيِّدْهَا وَتَوَكَّلْ»‏؟‏

وَأَيْضًا؛ فَأَصْحَابُ هَذِهِ الْحَالَةِ هُمْ أَهْلُ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ، وَلَمْ يَتْرُكُوا مَعَهَا التَّسَبُّبَ تَأَدُّبًا بِآدَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا أَهْلَ عِلْمٍ، وَلَمْ يَكُونُوا لِيَتْرُكُوا الْأَفْضَلَ إِلَى غَيْرِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الرَّابِعَةُ، وَهِيَ مَرْتَبَةُ الِابْتِلَاءِ فَالتَّسَبُّبُ فِيهَا أَيْضًا ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّ الْأَسْبَابَ قَدْ صَارَتْ عِنْدَ صَاحِبِهَا تَكْلِيفًا يُبْتَلَى بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْأَسْبَابِ الْعِبَادِيَّةِ دُونَ الْعَادِيَّةِ، فَكَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْعِبَادِيَّةَ لَا يَصِحُّ فِيهَا التَّرْكُ اعْتِمَادًا عَلَى الَّذِي سَبَّبَهَا مِنْ حَيْثُ كَانَتْ مَصْرُوفَةً إِلَيْهِ، كَذَلِكَ الْأَسْبَابُ الْعَادِيَّةُ، وَمِنْ هُنَا لَمَّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «مَا مِنْكُمْ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَلِمَ مَنْزِلَهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ»، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ نَعْمَلُ‏؟‏ أَفَلَا نَتَّكِلُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ «لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، ثُمَّ قَرَأَ ‏{‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏اللَّيْل‏:‏ 5‏]‏ إِلَى آخِرِهَا فَكَذَلِكَ الْعَادِيَّاتُ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ، فَهِيَ عِنْدُهُ جَارِيَةٌ عَلَى الْأَحْكَامِ الْمَوْضُوعَةِ، وَنَظَرُ صَاحِبِ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي الْأَسْبَابِ مِثْلُ نَظَرِهِ فِي الْعِبَادَاتِ، يَعْتَبِرُ فِيهَا مُجَرَّدَ الْأَسْبَابِ، وَيَدَعُ الْمُسَبَّبَاتِ لِمُسَبِّبِهَا‏.‏ وَأَمَّا الْمَرْتَبَةُ الْخَامِسَةُ‏:‏ فَالتَّسَبُّبُ فِيهَا صَحِيحٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا، وَإِنْ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَبَبٌ، وَلَا إِلَى الْمُسَبِّبِ مِنْ بَابٍ أَحْرَى؛ فَلَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ رَاقٍ بِهِ، وَمُلَاحَظٌ لِلْمُسَبِّبِ مِنْ جِهَتِهِ، بِدَلِيلِ الْأَسْبَابِ الْعِبَادِيَّةِ، وَلِأَنَّهَا إِنَّمَا صَارَتْ قُرَّةَ عَيْنِهِ لِكَوْنِهَا سُلَّمًا إِلَى الْمُتَعَبِّدِ إِلَيْهِ بِهَا، فَلَا فَارِقَ بَيْنَ الْعَادِيَّاتِ وَالْعِبَادِيَّاتِ؛ إِلَّا أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ مَأْخُوذٌ فِي تَجْرِيدِ الْأَغْيَارِ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ فَرُبَّمَا رَمَى مِنَ الْأَسْبَابِ بِمَا لَيْسَ بِضَرُورِيٍّ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا هُوَ ضَرُورِيٌّ، وَضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ الْمَجَالَ فِيهَا؛ فِرَارًا مِنْ تَكَاثُرِهَا عَلَى قَلْبِهِ حَتَّى يَصِحَّ لَهُ اتِّحَادُ الْوِجْهَةِ، وَإِذَا كَانَتِ الْأَسْبَابُ مُوَصِّلَةً إِلَى الْمَطْلُوبِ، فَلَا شَكَّ فِي أَخْذِهَا فِي هَذِهِ الرُّتْبَةِ؛ إِذْ مِنْ جِهَتِهَا يَصِحُّ الْمَطْلُوبُ‏.‏

وَأَمَّا السَّادِسَةُ؛ فَلَمَّا كَانَتْ جَامِعَةً لِأَشْتَاتِ مَا ذُكِرَ قَبْلَهَا، كَانَ مَا يَشْهَدُ لِمَا قَبْلَهَا شَاهِدًا لَهَا؛ غَيْرَ أَنَّ ذَلِكَ فِيهَا مُعْتَبَرٌ مِنْ جِهَةِ صِفَةِ الْعُبُودِيَّةِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ، لَا مِنْ جِهَةِ أَمْرٍ آخَرَ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ أَكَانَ التَّكْلِيفُ ظَاهِرَ الْمَصْلَحَةِ أَمْ غَيْرَ ظَاهِرِهَا؛ كُلُّ ذَلِكَ تَحْتَ قَصْدِ الْعَبْدِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ بِهِ مِمَّا يَرْتَبِطُ بِهِ بَعْضُ الْوُجُودِ أَوْ جَمِيعُهُ، كَانَ قَصْدُهُ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ شَامِلًا لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ‏:‏ ‏[‏إِيقَاعُ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ‏]‏

إِيقَاعُ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ قُصِدَ ذَلِكَ الْمُسَبَّبُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مُسَبَّبًا عَنْهُ فِي مَجْرَى الْعَادَاتِ، عُدَّ كَأَنَّهُ فَاعِلٌ لَهُ مُبَاشَرَةً، وَيَشْهَدُ لِهَذَا قَاعِدَةُ مَجَارِي الْعَادَاتِ؛ إِذْ أُجْرِيَ فِيهَا نِسْبَةُ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا؛ كَنِسْبَةِ الشِّبَعِ إِلَى الطَّعَامِ، وَالْإِرْوَاءِ إِلَى الْمَاءِ، وَالْإِحْرَاقِ إِلَى النَّارِ، وَالْإِسْهَالِ إِلَى السَّقَمُونْيَا، وَسَائِرِ الْمُسَبَّبَاتِ إِلَى أَسْبَابِهَا، فَكَذَلِكَ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَتَسَبَّبُ عَنْ كَسْبِنَا مَنْسُوبَةً إِلَيْنَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ كَسْبِنَا، وَإِذْ كَانَ هَذَا مَعْهُودًا مَعْلُومًا جَرَى عُرْفُ الشَّرْعِ فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ مُسَبَّبَاتِهَا عَلَى ذَلِكَ الْوِزَانِ‏.‏

وَأَدِلَّتُهُ فِي الشَّرْعِ كَثِيرَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ أَوِ الْمَمْنُوعَةِ، كَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَفِي الْحَدِيث‏:‏ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»‏.‏

وَفِيه‏:‏ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»‏.‏

وَكَذَلِكَ‏:‏ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً‏.‏

وَفِيه‏:‏ إِنَّ الْوَلَدَ لِوَالِدَيْهِ سِتْرٌ مِنَ النَّارِ وَأَنَّ مَنْ غَرَسَ غَرْسًا كَانَ مَا أُكِلَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا سُرِقَ مِنْهُ لَهُ صَدَقَةً، وَمَا أَكَلَ السَّبْعُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَمَا أَكَلَتِ الطَّيْرُ فَهُوَ لَهُ صَدَقَةٌ، وَلَا يَرْزَؤُهُ أَحَدٌ إِلَّا كَانَ لَهُ صَدَقَةً، وَكَذَلِكَ الزَّرْعُ، وَالْعَالِمُ يَبُثُّ الْعِلْمَ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ كُلِّ مَنِ انْتَفَعَ بِهِ‏.‏

وَمِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى، مَعَ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ الَّتِي حَصَلَ بِهَا النَّفْعُ أَوِ الضُّرُّ، لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْمُتَسَبِّبِ‏.‏

فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ فَالدَّاخِلُ فِي السَّبَبِ إِنَّمَا يَدْخُلُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لِمُسَبَّبِهِ، لَكِنْ تَارَةً يَكُونُ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحِيطٍ بِجَمِيعِ التَّفَاصِيلِ، وَتَارَةً يَدْخُلُ فِيهِ مُقْتَضِيًا لَهُ عَلَى الْجُمْلَةِ لَا عَلَى التَّفْصِيلِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّمَا أَمَرَ بِهِ لِمَصْلَحَةٍ يَقْتَضِيهَا فِعْلُهُ، وَمَا نَهَى عَنْهُ؛ فَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ لِمَفْسَدَةٍ يَقْتَضِيهَا فِعْلُهُ، فَإِذَا فَعَلَ فَقَدْ دَخَلَ عَلَى شَرْطِ أَنَّهُ يَتَسَبَّبُ فِيمَا تَحْتَ السَّبَبِ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ ذَلِكَ عَدَمُ عِلْمِهِ بِالْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ بِمَقَادِيرِهِمَا؛ فَإِنَّ الْأَمْرَ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ فِي إِيقَاعِ ‏[‏الْمَأْمُورِ بِهِ مَصْلَحَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، وَلِأَجْلِهَا أَمَرَ بِهِ، وَالنَّهْيَ قَدْ تَضَمَّنَ أَنَّ فِي إِيقَاعِ‏]‏ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَفْسَدَةً عَلِمَهَا اللَّهُ، وَلِأَجْلِهَا نَهَى عَنْهُ، فَالْفَاعِلُ مُلْتَزِمٌ لِجَمِيعِ مَا يُنْتِجُهُ ذَلِكَ السَّبَبُ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَإِنْ جَهِلَ تَفَاصِيلَ ذَلِكَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ أَيُثَابُ أَوْ يُعَاقَبُ عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ‏؟‏‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ إِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مَا فَعَلَهُ وَتَعَاطَاهُ لَا عَلَى مَا لَمْ يَفْعَلْ، لَكِنَّ الْفِعْلَ يُعْتَبَرُ شَرْعًا بِمَا يَكُونُ عَنْهُ مِنَ الْمَصَالِحِ أَوِ الْمَفَاسِدِ، وَقَدْ بَيَّنَ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَمَيَّزَ بَيْنَ مَا يَعْظُمُ مِنَ الْأَفْعَالِ مَصْلَحَتُهُ، فَجَعَلَهُ رُكْنًا أَوْ مَفْسَدَتُهُ فَجَعَلَهُ كَبِيرَةً، وَبَيَّنَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ؛ فَسَمَّاهُ فِي الْمَصَالِحِ إِحْسَانًا، وَفِي الْمَفَاسِدِ صَغِيرَةً، وَبِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ يَتَمَيَّزُ مَا هُوَ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ، وَأُصُولِهِ، وَمَا هُوَ مِنْ فُرُوعِهِ، وَفُصُولِهِ، وَيُعْرَفُ مَا هُوَ مِنَ الذُّنُوبِ كَبَائِرُ، وَمَا هُوَ مِنْهَا صَغَائِرُ، فَمَا عَظَّمَهُ الشَّرْعُ فِي الْمَأْمُورَاتِ فَهُوَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَمَا جَعَلَهُ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ فُرُوعِهِ، وَتَكْمِيلَاتِهِ، وَمَا عَظُمَ أَمْرُهُ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فَهُوَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَمَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَهُوَ مِنَ الصَّغَائِرِ، وَذَلِكَ عَلَى مِقْدَارِ الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ‏:‏ ‏[‏الْمُسَبَّبَاتُ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ‏]‏

مَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مِنْ أَنَّ الْمُسَبِّبَاتِ غَيْرُ مَقْدُورَةٍ لِلْمُكَلَّفِ، وَأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِهِ إِذَا اعْتُبِرَ، يَنْبَنِي عَلَيْهِ أُمُورٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ مُتَعَاطِيَ السَّبَبِ إِذَا أَتَى بِهِ بِكَمَالِ شُرُوطِهِ، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، ثُمَّ قُصِدَ أَنْ لَا يَقَعَ مُسَبَّبُهُ فَقَدْ قَصَدَ مُحَالًا، وَتَكَلَّفَ رَفْعَ مَا لَيْسَ لَهُ رَفْعُهُ، وَمَنَعَ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ مَنْعُهُ، فَمَنْ عَقَدَ نِكَاحًا عَلَى مَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ أَوْ بَيْعًا أَوْ شَيْئًا مِنَ الْعُقُودِ، ثُمَّ قَصَدَ أَنْ لَا يَسْتَبِيحَ بِذَلِكَ الْعَقْدِ مَا عُقِدَ عَلَيْهِ، فَقَدْ وَقَعَ قَصْدُهُ عَبَثًا، وَوَقَعَ الْمُسَبَّبُ الَّذِي أَوْقَعَ سَبَبَهُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَوْقَعَ طَلَاقًا أَوْ عِتْقًا قَاصِدًا بِهِ مُقْتَضَاهُ فِي الشَّرْعِ، ثُمَّ قَصَدَ أَنْ لَا يَكُونَ مُقْتَضَى ذَلِكَ فَهُوَ قَصْدٌ بَاطِلٌ، وَمِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ إِذَا صَلَّى أَوْ صَامَ أَوْ حَجَّ كَمَا أُمِرَ، ثُمَّ قَصَدَ فِي نَفْسِهِ أَنَّ مَا أَوْقَعَ مِنَ الْعِبَادَةِ لَا يَصِحُّ لَهُ أَوْ لَا يَنْعَقِدُ قُرْبَةً، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ لَغْوٌ، وَهَكَذَا الْأَمْرُ فِي الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ، وَفِيهِ جَاءَ‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 87‏]‏‏.‏

وَمِنْ هُنَا كَانَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ عَبَثًا مِنَ الْمَأْكُولِ، وَالْمَشْرُوبِ، وَالْمَلْبُوسِ، وَالنِّكَاحِ، وَهُوَ غَيْرُ نَاكِحٍ فِي الْحَالِ، وَلَا قَاصِدٍ لِلتَّعْلِيقِ فِي خَاصٍّ بِخِلَافِ الْعَامِّ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ مَا تَوَلَّى اللَّهُ حِلِّيَّتَهُ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنَ الْمُكَلَّفِ ظَاهِرٌ مِثْلُ مَا تَعَاطَى الْمُكَلَّفُ السَّبَبَ فِيهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ إِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَقَوْلُهُ‏:‏ «مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ» الْحَدِيثَ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِوُقُوعِ الْمُسَبَّبَاتِ عَنْ أَسْبَابِهَا كَمَا تَقَدَّمَ، فَقَصْدُ هَذَا الْقَاصِدِ مُنَاقِضٌ لِقَصْدِ الشَّارِعِ، وَكُلُّ قَصْدٍ نَاقَضَ قَصَدَ الشَّارِعِ فَبَاطِلٌ؛ فَهَذَا الْقَصْدُ بَاطِلٌ، وَالْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةٌ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ هَذَا مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ أَنَّ اخْتِيَارَ الْمُكَلَّفِ وَقَصْدَهُ شَرْطٌ فِي وَضْعِ الْأَسْبَابِ، فَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُهُ مُنَافِيًا لِاقْتِضَاءِ الْأَسْبَابِ لِمُسَبَّبَاتِهَا، كَانَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَسْبَابَ لَمْ يَتَعَاطَهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى كَمَالِهَا، بَلْ مَفْقُودَةُ الشَّرْطِ، وَهُوَ الِاخْتِيَارُ فَلَمْ تَصِحَّ مِنْ جِهَةِ فَقْدِ الشَّرْطِ؛ فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ الْمُسَبَّبَاتُ النَّاشِئَةُ عَنِ الْأَسْبَابِ غَيْرَ وَاقِعَةٍ لِفَقْدِ الِاخْتِيَارِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ أَنَّ الْقَصْدَ الْمُنَاقِضَ لِقَصْدِ الشَّارِعِ مُبْطِلٌ لِلْعَمَلِ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ، وَتَعَاطِي الْأَسْبَابِ الْمُبِيحَةِ مَثَلًا بِقَصْدِ أَنْ لَا تَكُوَنَ مُبِيحَةً مُنَاقِضَةً لِقَصْدِ الشَّارِعِ ظَاهِرَةٌ، مِنْ حَيْثُ كَانَ قَصْدُ الشَّارِعِ التَّحْصِيلَ بِوَسَاطَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، فَيَكُونُ إِذًا تَعَاطِي هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَاطِلًا وَمَمْنُوعًا، كَالْمُصَلِّي قَاصِدًا بِصَلَاتِهِ مَا لَا تُجْزِئُهُ لِأَجْلِهِ، وَالْمُتَطَهِّرِ يَقْصِدُ أَنْ لَا يَكُونَ مُسْتَبِيحًا لِلصَّلَاةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْأَصْلِ وَالْأَصْلِ الْمَذْكُورِ جَمْعٌ بَيْنَ مُتَنَافِيَيْنِ، وَهُوَ بَاطِلٌ‏.‏

فَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّل‏:‏ أَنَّ الْفَرْضَ إِنَّمَا هُوَ فِي مَوْقِعِ الْأَسْبَابِ بِالِاخْتِيَارِ لِأَنْ تَكُونَ أَسْبَابًا، لَكِنْ مَعَ عَدَمِ اخْتِيَارِهِ لِلْمُسَبَّبِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي مَوْقِعِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارٍ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا مُمْكِنٌ عَقْلًا، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا سَابِقٌ عَلَى الْآخَرِ فَلَا يَتَنَافَيَانِ، كَمَا إِذَا قَصَدَ الْوَطْءَ وَاخْتَارَهُ وَكَرِهَ خَلْقَ الْوَلَدِ أَوِ اخْتَارَ وَضْعَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ وَكَرِهَ نَبَاتَهُ أَوْ رَمَى بِسَهْمٍ صَوَّبَهُ عَلَى رَجُلٍ ثُمَّ كَرِهَ أَنْ يُصِيبَهُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَكَمَا يُمْكِنُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْعَادِيَّاتِ فَكَذَلِكَ؛ فِي الشَّرْعِيَّاتِ‏.‏

وَالْجَوَابُ عَنِ الثَّانِي‏:‏ أَنَّ فَاعِلَ السَّبَبِ فِي مَسْأَلَتِنَا قَاصِدٌ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَهُ الشَّارِعُ مُنْتِجًا غَيْرَ مُنْتَجٍ، وَمَا وَضَعَهُ سَبَبًا فَعَلَهُ هُنَا عَلَى أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَا يَكُونُ لَهُ مُسَبَّبٌ، وَهَذَا لَيْسَ لَهُ فَقَصْدُهُ فِيهِ عَبَثٌ، بِخِلَافِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي قَاعِدَةِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ؛ فَإِنَّ فَاعِلَ السَّبَبِ فِيهِ قَاصِدٌ لِجَعْلِهِ سَبَبًا لِمُسَبَّبٍ لَمْ يَجْعَلْهُ الشَّارِعُ مُسَبَّبًا لَهُ، كَنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ عِنْدَ الْقَائِلِ بِمَنْعِهِ؛ فَإِنَّهُ قَاصِدٌ بِنِكَاحِهِ التَّحْلِيلَ لِغَيْرِهِ، وَلَمْ يَضَعِ الشَّارِعُ النِّكَاحَ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ، فَقَارَنَ هَذَا الْقَصْدُ الْعَقْدَ فَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا شَرْعِيًّا؛ فَلَمْ يَكُنْ مُحَلِّلًا لَا لِلنَّاكِحِ، وَلَا لِلْمُحَلَّلِ لَهُ لِأَنَّهُ بَاطِلٌ‏.‏

وَحَاصِلُ الْأَمْرِ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَخَذَ السَّبَبَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ، وَالْآخَرَ أَخَذَهُ عَلَى أَنَّهُ سَبَبٌ لَا يُنْتِجُ؛ فَالْأَوَّلُ لَا يُنْتِجُ لَهُ شَيْئًا، وَالْآخَرُ يُنْتِجُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْإِنْتَاجُ بِاخْتِيَارِهِ، وَلَا عَدَمِهِ فَهَذَا لَمْ يُخَالِفْ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي السَّبَبِ مِنْ حَيْثُ هُوَ سَبَبٌ، وَلَكِنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يَقَعُ مُسَبَّبُهُ، وَهَذَا كَذِبٌ أَوْ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ، وَالْأَوَّلُ تَعَاطَاهُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِالسَّبَبِ الْمَوْضُوعِ لِلشَّارِعِ فَاعْرِفِ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ دَقِيقٌ‏.‏

وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَصْدَ فِي أَحَدِهِمَا مُقَارِنٌ لِلْعَمَلِ فَيُؤَثِّرُ فِيهِ، وَالْآخِرِ تَابِعٌ لَهُ بَعْدَ اسْتِقْرَارِهِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ لِمَ لَا يَكُونُ هَذَا فِي الْحُكْمِ كَالرَّفْضِ فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ رَفْضٌ لِكَوْنِهِ سَبَبًا شَرْعِيًّا، فَالطَّهَارَةُ مَثَلًا سَبَبٌ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ، فَإِذَا قُصِدَ أَنَّهَا لَا تَرْفَعُ الْحَدَثَ فَهُوَ مَعْنَى رَفْضِ النِّيَّةِ فِيهِ، وَقَدْ قَالُوا‏:‏ إِنَّ رَفْضَ النِّيَّةِ يَنْتَهِضُ سَبَبًا فِي إِبْطَالِ الْعِبَادَةِ فَرَجَعَ الْبَحْثُ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِبْطَالٌ لِأَنْفُسِ الْأَسْبَابِ لَا إِبْطَالُ الْمُسَبَّبَاتِ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ؛، وَإِنَّمَا يَصِحُّ الرَّفْضُ فِي أَثْنَاءِ الْعِبَادَةِ إِذَا كَانَ قَاصِدًا بِهَا امْتِثَالَ الْأَمْرِ، ثُمَّ أَتَمَّهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ، بَلْ بِنْيَةٍ أُخْرَى لَيْسَتْ بِعِبَادَتِهِ الَّتِي شَرَعَ فِيهَا، كَالْمُتَطَهِّرِ يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ، ثُمَّ يَنْسَخُ تِلْكَ النِّيَّةَ بِنْيَةِ التَّبَرُّدِ أَوِ التَّنَظُّفِ مِنَ الْأَوْسَاخِ الْبَدَنِيَّةِ، وَأَمَّا بَعْدَ مَا تَمَّتِ الْعِبَادَةُ، وَكَمُلَتْ عَلَى شُرُوطِهَا؛ فَقَصْدُهُ أَنْ لَا تَكُونَ عِبَادَةً، وَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُكْمٌ آخَرُ مِنْ إِجْزَاءٍ أَوِ اسْتِبَاحَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِيهَا، بَلْ هِيَ عَلَى حُكْمِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْقَصْدُ؛ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ‏.‏

وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ كَلَامَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي الرَّفْضِ، وَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ يُؤَثِّرُ، وَلَمْ يُفَصِّلِ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّ كَلَامَ الْفُقَهَاءِ فِي رَفْضِ الْوُضُوءِ، وَخِلَافَهُمْ فِيهِ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ هَذَا الْأَصْلِ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ الطَّهَارَةَ هُنَا لَهَا وَجْهَانِ فِي النَّظَرِ، فَمَنْ نَظَرَ إِلَى فِعْلِهَا عَلَى مَا يَنْبَغِي قَالَ‏:‏ إِنَّ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ بِهَا لَازِمٌ، وَمُسَبَّبٌ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إِلَّا بِنَاقِضٍ طَارِئٍ، وَمَنْ نَظَرَ إِلَى حُكْمِهَا،- أَعْنِي حُكْمَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مُسْتَصْحِبًا إِلَى أَنْ يُصَلِّيَ، وَذَلِكَ أَمْرٌ مُسْتَقْبَلٌ- فَيُشْتَرَطُ فِيهِ اسْتِصْحَابُ النِّيَّةِ الْأُولَى الْمُقَارِنَةِ لِلطَّهَارَةِ، وَهِيَ بِالنِّيَّةِ الْمُنَافِيَةِ مَنْسُوخَةٌ، فَلَا يَصِحُّ اسْتِبَاحَةُ الصَّلَاةِ الْآتِيَةِ بِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَالرَّفْضِ الْمُقَارِنِ لِلْفِعْلِ، وَلَوْ قَارَنَ الْفِعْلَ لَأَثَّرَ، فَكَذَلِكَ هُنَا فَلَوْ رَفَضَ نِيَّةَ الطَّهَارَةِ بَعْدَمَا أَدَّى بِهَا الصَّلَاةَ، وَتَمَّ حُكْمُهَا، لَمْ يَصِحَّ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ؛ فَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى، ثُمَّ رَفَضَ تِلْكَ الصَّلَاةَ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْهَا، وَقَدْ كَانَ أَتَى بِهَا عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ؛ فَإِنْ قَالَ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا فَالْقَاعِدَةُ ظَاهِرَةٌ فِي خِلَافِ مَا قَالَ‏.‏ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَبِهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

هَذَا حُكْمُ الْأَسْبَابِ إِذَا فُعِلَتْ بِاسْتِكْمَالِ شَرَائِطِهَا، وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تُفْعَلِ الْأَسْبَابُ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَلَا اسْتَكْمَلَتْ شَرَائِطَهَا، وَلَمْ تَنْتِفْ مَوَانِعُهَا، فَلَا تَقَعُ مُسَبَّبَاتُهَا، شَاءَ الْمُكَلَّفُ أَوْ أَبَى؛ لِأَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَيْسَ وُقُوعُهَا أَوْ عَدَمُ وُقُوعِهَا لِاخْتِيَارِهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْهَا أَسْبَابًا مُقْتَضِيَةً إِلَّا مَعَ وُجُودِ شَرَائِطِهَا وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهَا، فَإِذَا لَمْ تَتَوَفَّرْ لَمْ يَسْتَكْمِلِ السَّبَبُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا شَرْعِيًّا، سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا إِنَّ الشُّرُوطَ وَانْتِفَاءَ الْمَوَانِعِ أَجْزَاءُ أَسْبَابٍ أَمْ لَا فَالثَّمَرَةُ وَاحِدَةٌ‏.‏

وَأَيْضًا؛ لَوِ اقْتَضَتِ الْأَسْبَابُ مُسَبَّبَاتِهَا، وَهِيَ غَيْرُ كَامِلَةٍ بِمَشِيئَةِ الْمُكَلَّفِ أَوِ ارْتَفَعَتِ اقْتِضَاءَاتُهَا وَهِيَ تَامَّةٌ، لَمْ يَكُنْ لِمَا وَضَعَ الشَّارِعُ مِنْهَا فَائِدَةٌ، وَلَكَانَ وَضْعُهُ لَهُ عَبَثًا؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَوْنِهَا أَسْبَابًا شَرْعِيَّةً هُوَ أَنْ تَقَعَ مُسَبَّبَاتُهَا شَرْعًا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا غَيْرَ أَسْبَابٍ شَرْعًا أَنْ لَا تَقَعَ مُسَبَّبَاتُهَا شَرْعًا؛ فَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُ الْمُكَلَّفِ يَقْلِبُ حَقَائِقَهَا شَرْعًا لَمْ يَكُنْ لَهَا وَضْعٌ مَعْلُومٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَدْ فَرَضْنَاهَا مَوْضُوعَةً فِي الشَّرْعِ عَلَى وَضْعٍ مَعْلُومٍ، هَذَا خَلْفٌ مُحَالٌ؛ فَمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِثْلُهُ، وَبِهِ يَصِحُّ أَنَّ اخْتِيَارَاتِ الْمُكَلَّفِ لَا تَأْثِيرَ لَهَا فِي الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ كَيْفَ هَذَا مَعَ الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ أَوْ بِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ أَوْ بِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّهْيِ لِذَاتِهِ أَوْ لِوَصْفِهِ؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذَاهِبَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ التَّسَبُّبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ- وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْتَكْمِلِ الشُّرُوطَ، وَلَا انْتَفَتْ مَوَانِعُهُ- يُفِيدُ حُصُولَ الْمُسَبَّبِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ؛ فَإِنَّ الْبُيُوعَ الْفَاسِدَةَ عِنْدَهُ تُفِيدُ مِنْ أَوَّلِهَا شُبْهَةَ مِلْكٍ عِنْدَ قَبْضِ الْمَبِيعِ، وَأَيْضًا؛ فَتُفِيدُ الْمِلْكَ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَا تُفِيتُ الْعَيْنَ، وَكَذَلِكَ الْغَصْبُ وَنَحْوُهُ يُفِيدُ عِنْدَهُ الْمِلْكَ، وَإِنْ لَمْ تَفُتْ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ فِي مَسَائِلَ، وَالْغَصْبُ أَوْ نَحْوُهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مِنْ أَصْلِهِ، فَيَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ يَحْصُلُ بِهِ الْمُسَبَّبُ إِلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى الْفَسَادِ مُطْلَقًا‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ الْقَاعِدَةَ عَامَّةٌ، وَإِفَادَةَ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ إِنَّمَا هُوَ لِأُمُورٍ أُخَرَ خَارِجَةٍ عَنْ نَفْسِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ لَا يَسَعُ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يُذْكَرُ فِيمَا بَعْدَ هَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏في الْفَاعِلِ لِلسَّبَبِ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ إِلَيْهِ إِذَا وَكَلَهُ إِلَى فَاعِلِهِ‏]‏

وَمِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْفَاعِلَ لِلسَّبَبِ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ إِلَيْهِ إِذَا وَكَلَهُ إِلَى فَاعِلِهِ، وَصَرَفَ نَظَرَهُ عَنْهُ، كَانَ أَقْرَبَ إِلَى الْإِخْلَاصِ وَالتَّفْوِيضِ، وَالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالصَّبْرِ عَلَى الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ الْمَأْمُورِ بِهَا، وَالْخُرُوجِ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَحْظُورَةِ، وَالشُّكْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ، وَالْأَحْوَالِ الْمَرَضِيَّةِ، وَيَتَبَيَّنُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْبَعْضِ عَلَى أَنَّهُ ظَاهِرٌ‏.‏

أَمَّا الْإِخْلَاصُ؛ فَلِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا لَبَّى الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ فِي السَّبَبِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَا سِوَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ خَارِجٌ عَنْ حُظُوظِهِ، قَائِمٌ بِحُقُوقِ رَبِّهِ، وَاقِفٌ مَوْقِفَ الْعُبُودِيَّةِ بِخِلَافِ مَا إِذَا الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ وَرَاعَاهُ؛ فَإِنَّهُ عِنْدَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهِ مُتَوَجِّهٌ شَطْرَهُ، فَصَارَ تَوَجُّهُهُ إِلَى رَبِّهِ بِالسَّبَبِ بِوَاسِطَةِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الرُّتْبَتَيْنِ فِي الْإِخْلَاصِ‏.‏

وَأَمَّا التَّفْوِيضُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ بِدَاخِلٍ تَحْتَ مَا كُلِّفَ بِهِ، وَلَا هُوَ مِنْ نَمَطِ مَقْدُورَاتِهِ كَانَ رَاجِعًا بِقَلْبِهِ إِلَى مَنْ إِلَيْهِ ذَلِكَ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَصَارَ مُتَوَكِّلًا وَمُفَوِّضًا، هَذَا فِي عُمُومِ التَّكَالِيفِ الْعَادِيَّةِ، وَالْعِبَادِيَّةِ، وَيَزِيدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِبَادِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَزَالُ بَعْدَ التَّسَبُّبِ خَائِفًا وَرَاجِيًا؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ يَلْتَفِتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالدُّخُولِ فِي السَّبَبِ، صَارَ مُتَرَقِّبًا لَهُ نَاظِرًا إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ تَسَبُّبُهُ، وَرُبَّمَا كَانَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى إِعْرَاضِهِ عَنْ تَكْمِيلِ السَّبَبِ؛ اسْتِعْجَالًا لِمَا يُنْتِجُهُ فَيَصِيرُ تَوَجُّهُهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَقَدْ تَرَكَ التَّوَجُّهَ إِلَى مَا طُلِبَ بِالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ، وَهُنَا تَقَعُ حِكَايَةُ مَنْ سَمِعَ أَنَّ مَنْ أَخْلَصَ لِلَّهِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، ظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكْمَةِ مِنْ قَلْبِهِ عَلَى لِسَانِهِ، فَأَخَذَ بِزَعْمِهِ فِي الْإِخْلَاصِ لِيَنَالَ الْحِكْمَةَ فَتَمَّ الْأَمَدُ وَلَمْ تَأْتِهِ الْحِكْمَةُ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ إِنَّمَا أَخْلَصْتَ لِلْحِكْمَةِ، وَلَمْ تُخْلِصْ لِلَّهِ‏.‏

وَهَذَا وَاقِعٌ كَثِيرًا فِي مُلَاحَظَاتِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ رُبَّمَا غَطَّتْ مُلَاحَظَاتُهَا فَحَالَتْ بَيْنَ الْمُتَسَبِّبِ، وَبَيْنَ مُرَاعَاةِ الْأَسْبَابِ، وَبِذَلِكَ يَصِيرُ الْعَابِدُ مُسْتَكْثِرًا لِعِبَادَتِهِ، وَالْعَالَمُ مُغْتَرًّا بِعِلْمِهِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا الصَّبْرُ وَالشُّكْرُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُلْفِتًا إِلَى أَمْرِ الْآمِرِ وَحْدَهُ مُتَيَقِّنًا أَنَّ بِيَدِهِ مِلَاكَ الْمُسَبَّبَاتِ وَأَسْبَابِهَا، وَأَنَّهُ عَبْدٌ مَأْمُورٌ، وَقَفَ مَعَ أَمْرِ الْآمِرِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَحِيدٌ وَلَا زَوَالٌ، وَأَلْزَمَ نَفْسَهُ الصَّبْرَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَحْتَ حَدِّ الْمُرَاقَبَةِ، وَمِمَّنْ عَبَدَ اللَّهَ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا وَقَعَ الْمُسَبَّبُ كَانَ مِنْ أَشْكَرِ الشَّاكِرِينَ؛ إِذْ لَمْ يَرَ لِتَسَبُّبِهِ فِي ذَلِكَ الْمُسَبَّبِ، وِرْدًا، وَلَا صَدْرًا، وَلَا اقْتَضَى مِنْهُ فِي نَفْسِهِ نَفْعًا، وَلَا ضَرًّا، وَإِنْ كَانَ عَلَامَةً وَسَبَبًا عَادِيًّا فَهُوَ سَبَبٌ بِالتَّسَبُّبِ، وَمُعْتَبَرٌ فِي عَادِيِّ التَّرْتِيبِ، وَلَوْ كَانَ مُلْتَفِتًا إِلَى الْمُسَبَّبِ فَالسَّبَبُ قَدْ يُنْتِجُ وَقَدْ يُعْقِمُ، فَإِذَا أَنْتَجَ فَرِحَ، وَإِذَا لَمْ يُنْتِجْ لَمْ يَرْضَ بِقَسْمِ اللَّهِ وَلَا بِقَضَائِهِ، وَعَدَّ السَّبَبَ كَلَا شَيْءٍ، وَرُبَّمَا مَلَّهُ فَتَرَكَهُ، وَرُبَّمَا سَئِمَ مِنْهُ فَثَقُلَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ، وَهُوَ خِلَافُ عَادَةِ مَنْ دَخَلَ تَحْتَ رِقِّ الْعُبُودِيَّةِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سَائِرَ الْمَقَامَاتِ السَّنِيَّةِ، وَجَدَهَا فِي تَرْكِ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ، وَرُبَّمَا كَانَ هَذَا أَعْظَمَ نَفْعًا فِي أَصْحَابِ الْكَرَامَاتِ، وَالْخَوَارِقِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فِي تَارِكِ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ لِلَّهِ‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ تَارِكَ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ لِلَّهِ، إِنَّمَا هَمُّهُ السَّبَبُ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ فَهُوَ عَلَى بَالٍ مِنْهُ فِي الْحِفْظِ لَهُ، وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهِ، وَالنَّصِيحَةِ فِيهِ، لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ إِلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْمُسَبَّبَ مِنَ السَّبَبِ، لَكَانَ مَظِنَّةً لِأَخْذِ السَّبَبِ عَلَى غَيْرِ أَصَالَتِهِ، وَعَلَى غَيْرِ قَصْدِ التَّعَبُّدِ فِيهِ، فَرُبَّمَا أَدَّى إِلَى الْإِخْلَالِ بِهِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، وَرُبَّمَا شَعَرَ بِهِ، وَلَمْ يُفَكِّرْ فِيمَا عَلَيْهِ فِيهِ، وَمِنْ هُنَا تَنْجَرُّ مَفَاسِدُ كَثِيرَةٌ، وَهُوَ أَصْلُ الْغِشِّ فِي الْأَعْمَالِ الْعَادِيَّةِ نَعَمْ وَالْعِبَادِيَّةِ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ فِي الْخِصَالِ الْمُهْلِكَةِ‏.‏

أَمَّا فِي الْعَادِيَّاتِ فَظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهُ لَا يَغُشُّ إِلَّا اسْتِعْجَالًا لِلرِّبْحِ الَّذِي يَأْمُلُهُ فِي تِجَارَتِهِ أَوْ لِلنِّفَاقِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُ فِي صِنَاعَتِهِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْعِبَادَاتِ؛ فَإِنَّ مِنْ شَأْنِ مَنْ أَحَبَّهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُوضَعَ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، بَعْدَ مَا يُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، فَالتَّقَرُّبُ بِالنَّوَافِلِ سَبَبٌ لِلْمَحَبَّةِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ، فَرُبَّمَا الْتَفَتَ الْعَابِدُ لِهَذَا الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ الَّذِي هُوَ النَّوَافِلُ، ثُمَّ يَسْتَعْجِلُ، وَيُدَاخِلُهُ طَلَبُ مَا لَيْسَ لَهُ فَيَظْهَرُ ذَلِكَ السَّبَبُ، وَهُوَ الرِّيَاءُ، وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ، وَكَفَى بِذَلِكَ فَسَادًا‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الطُّمَأْنِينَةُ‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْحَالَةِ مُسْتَرِيحُ النَّفْسِ سَاكِنُ الْبَالِ مُجْتَمَعُ الشَّمْلِ، فَارِغُ الْقَلْبِ مِنْ تَعَبِ الدُّنْيَا، مُتَوَحِّدُ الْوُجْهَةِ، فَهُوَ بِذَلِكَ طَيِّبُ الْمَحْيَا، مُجَازَى فِي الْآخِرَةِ، قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 97‏]‏‏.‏

وَرُوِيَ عَنْ جَعْفَرٍ الصَّادِقِ أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَيَاةِ الطَّيِّبَة‏:‏ هِيَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ، وَصِدْقُ الْمَقَامِ مَعَ اللَّهِ، وَصِدْقُ الْوُقُوفِ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ‏.‏

وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ‏:‏ الْعَيْشُ مَعَ اللَّهِ، وَالْإِعْرَاضُ عَمَّا سِوَى اللَّهِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَفِيهِ كِفَايَةُ جَمِيعِ الْهُمُومِ بِجَعْلِ هَمِّهِ هَمًّا وَاحِدًا، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ نَاظِرًا إِلَى الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ؛ فَإِنَّهُ نَاظِرٌ إِلَى كُلِّ مُسَبَّبٍ فِي كُلِّ سَبَبٍ يَتَنَاوَلُهُ، وَذَلِكَ مُكْثِرٌ، وَمُشَتَّتٌ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَفِي النَّظَرِ إِلَى كَوْنِ السَّبَبِ مُنْتِجًا أَوْ غَيْرَ مُنْتِجٍ تَفَرُّقُ بَالٍ، وَإِذَا أَنْتَجَ فَلَيْسَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ، فَصَاحِبُهُ مُتَبَدِّدُ الْحَالِ، مَشْغُولُ الْقَلْبِ فِي أَنْ لَوْ كَانَ الْمُسَبَّبُ أَصْلَحَ مِمَّا كَانَ، فَتَرَاهُ يَعُودُ تَارَةً بِاللَّوْمِ عَلَى السَّبَبِ، وَتَارَةً بِعَدَمِ الرِّضَى بِالْمُسَبَّبِ، وَتَارَةً عَلَى غَيْرِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَإِلَى هَذَا النَّحْوِ يُشِيرُ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ، وَأَمْثَالُهُ‏.‏

وَأَمَّا الْمُشْتَغِلُ بِالسَّبَبِ مُعْرِضًا عَنِ النَّظَرِ فِي غَيْرِهِ، فَمُشْتَغِلٌ بِأَمْرٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ بِالسَّبَبِ أَيِّ سَبَبٍ كَانَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَمًّا وَاحِدًا خَفِيفٌ عَلَى النَّفْسِ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى هُمُومٍ مُتَعَدِّدَةٍ، بَلْ هَمٌّ وَاحِدٌ ثَابِتٌ خَفِيفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَمٍّ وَاحِدٍ مُتَغَيِّرٍ مُتَشَتِّتٍ فِي نَفْسِهِ، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ‏:‏ مَنْ جَعَلَ هَمَّهُ هَمًّا وَاحِدًا كَفَاهُ اللَّهُ سَائِرَ الْهُمُومِ، وَمَنْ جَعَلَ هَمَّهُ أُخْرَاهُ كَفَاهُ اللَّهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ‏.‏

وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ مَنْ قَالَ‏:‏ مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِلَّهِ؛ فَالْقَلِيلُ مِنَ الْعِلْمِ يَكْفِيهِ، وَمَنْ طَلَبَهُ لِلنَّاسِ فَحَوَائِجُ النَّاسِ كَثِيرَةٌ‏.‏

وَقَدْ لَهِجَ الزُّهَّادُ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ، وَفَرِحُوا بِالِاسْتِبَاقِ فِيهِ حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ‏:‏ لَوْ عَلِمَ الْمُلُوكُ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَقَاتَلُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ‏.‏

وَرُوِيَ فِي الْحَدِيث‏:‏ «الزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا يُرِيحُ الْقَلْبَ وَالْبَدَنَ»‏.‏ وَالزُّهْدُ لَيْسَ عَدْمَ ذَاتِ الْيَدِ، بَلْ هُوَ حَالٌ لِلْقَلْبِ يُعَبَّرُ عَنْهَا- إِنْ شِئْتَ- بِمَا تَقَرَّرَ مِنَ الْوُقُوفِ مَعَ التَّعَبُّدِ بِالْأَسْبَابِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةٍ لِلْمُسَبَّبَاتِ الْتِفَاتًا إِلَيْهَا فِي ‏[‏الْأَسْبَابِ‏]‏، فَهَذَا أُنْمُوذَجٌ يُنَبِّهُكَ عَلَى جُمْلَةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏التَّوَسُّطُ فِي الْأُمُورِ‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبِ قَدْ يَكُونُ عَلَى التَّوَسُّطِ، كَمَا سَيَأْتِي ذِكْرُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَذَلِكَ إِذَا أَخَذَهُ مِنْ حَيْثُ مَجَارِي الْعَادَاتِ، وَهُوَ أَسْلَمُ لِمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ، وَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ مِنَ الْمُبَالَغَةِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُ الْبَشَرُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ لِلْمُتَسَبِّبِ؛ إِمَّا شَدَّةُ التَّعَبِ، وَإِمَّا الْخُرُوجُ عَمَّا هُوَ لَهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ‏.‏

أَمَّا شِدَّةُ التَّعَبِ؛ فَكَثِيرًا مَا يَتَّفِقُ لِأَرْبَابِ الْأَحْوَالِ فِي السُّلُوكِ، وَقَدْ يَتَّفِقُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ التَّسَبُّبِ كَثِيرَ الْإِشْفَاقِ أَوْ كَثِيرَ الْخَوْفِ، وَأَصْلُ هَذَا تَنْبِيهُ اللَّهِ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ- حَالَةَ دُعَائِهِ الْخَلْقَ بِشِدَّةِ الْحِرْصِ- عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِهِ الرُّجُوعُ إِلَى التَّوَسُّطِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ‏}‏ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْأَنْعَام‏:‏ 33- 35‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 41‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ‏}‏ الْآيَةَ إِلَى قَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وَقَوْلِه‏:‏ ‏{‏وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ‏}‏ ‏[‏النَّحْل‏:‏ 127‏]‏‏.‏

إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يُشِيرُ إِلَى الْحَضِّ عَلَى الْإِقْصَارِ مِمَّا كَانَ يُكَابِدُ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْوُقُوفِ مَعَ مَا أَمَرَ بِهِ مِمَّا هُوَ تَسَبُّبٌ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ بِقَوْلِه‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ‏}‏ ‏[‏الرَّعْد‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ‏}‏ ‏[‏هُودٍ‏:‏ 12‏]‏ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَجَمِيعُهُ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْكَ التَّسَبُّبُ، وَاللَّهُ هُوَ الْمُسَبِّبُ، وَخَالِقُ الْمُسَبَّبِ ‏{‏لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ‏}‏ الْآيَةَ ‏[‏آلِ عِمْرَانَ‏:‏ 128‏]‏، وَهُوَ يُنَبِّهُكَ عَلَى شِدَّةِ مَقَاسَاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَمُبَالَغَتِهِ فِي التَّبْلِيغِ طَمَعًا فِي أَنْ تَقَعَ نَتِيجَةُ الدَّعْوَةِ، وَهِيَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي بِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، حَتَّى جَاءَ فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏التَّوْبَة‏:‏ 128‏]‏‏.‏

وَمَعَ هَذَا فَقَدَ نُدِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إِلَى أَمْرٍ هُوَ أَوْفَقُ، وَأَحْرَى بِالتَّوَسُّطِ فِي مَقَامِ النُّبُوَّةِ، وَأَدْنَى مِنْ خِفَّةِ مَا يَلْقَاهُ فِي ذَلِكَ مِنَ التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ، وَأَجْرَى فِي سَائِرِ الرُّتَبِ الَّتِي دُونَ النُّبُوَّةِ، هَذَا وَإِنْ كَانَ مَقَامُ النُّبُوَّةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ شَرَفِ الْمَنْزِلَةِ الَّتِي لَا يُدَانِيهِ فِيهَا أَحَدٌ، فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْكَامِهِ فِيمَا دُونَهَا مِنَ الْمَرَاتِبِ اللَّائِقَةِ بِالْأُمَّةِ، كَمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرِيعَةِ مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالِهِ، وَأَحْكَامِهِ فِي أَحْكَامِ أُمَّتِهِ، مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهِ دُونَ أُمَّتِهِ‏.‏

وَأَمَّا الْخُرُوجُ عَمَّا هُوَ لَهُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ؛ فَلِأَنَّهُ إِذَا قَصَدَ عَيْنَ الْمُسَبَّبِ أَنْ يَكُونَ أَوْ لَا يَكُونَ كَانَ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِ الشَّارِعِ؛ إِذْ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَبَّبَ لَيْسَ لِلْمُكَلَّفِ، وَلَمْ يُكَلَّفْ بِهِ، بَلْ هُوَ لِلَّهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ قَصَدَهُ فَالْغَالِبُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ إِفْرَاطِهِ أَنْ يَكُونَ قَاصِدًا لِوُقُوعِهِ بِحَسَبِ غَرَضِهِ الْمُعَيَّنِ، وَهُوَ إِنَّمَا يَجْرِي عَلَى مُقْتَضَى إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى، لَا عَلَى وَفْقِ غَرَضِ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، فَقَدْ صَارَ غَرَضُ الْعَبْدِ وَقَصْدُهُ مُخَالِفًا بِالْوَضْعِ لِمَا أُرِيدَ بِهِ، وَذَلِكَ خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الْأَدَبِ، وَمُعَارَضَةٌ لِلْقَدَرِ أَوْ مَا هُوَ يَنْحُو ذَلِكَ النَّحْوَ‏.‏

وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ التَّنْبِيهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى بِقُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَلَا تَعْجِزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ‏:‏ لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا، وَلَكِنْ قُلْ‏:‏ قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ»‏.‏ فَقَدْ نَبَّهَكَ عَلَى أَنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ الْتِفَاتٌ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي السَّبَبِ كَأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ عَنْهُ أَوْ لَازِمٌ عَقْلًا، بَلْ ذَلِكَ قَدَرُ اللَّهِ، وَمَا شَاءَ فَعَلَ؛ إِذْ لَا يُعِينُهُ وُجُودُ السَّبَبِ، وَلَا يُعْجِزُهُ فُقْدَانُهُ‏.‏

فَالْحَاصِلُ أَنَّ نُفُوذَ الْقَدْرِ الْمَحْتُومِ هُوَ مَحْصُولُ الْأَمْرِ، وَيَبْقَى السَّبَبُ‏:‏ إِنْ كَانَ مُكَلَّفًا بِهِ عَمِلَ فِيهِ بِمُقْتَضَى التَّكْلِيفِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكَلَّفٍ بِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي مَقْدُورِهِ اسْتَسْلَمَ اسْتِسْلَامَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ بِيَدِ اللَّهِ، فَلَا يَنْفَتِحُ ‏[‏عَلَيْهِ‏]‏ بَابُ الشَّيْطَانِ، وَكَثِيرًا مَا يُبَالِغُ الْإِنْسَانُ فِي هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يَصِيرَ مِنْهُ إِلَى مَا هُوَ مَكْرُوهٌ شَرْعًا مِنْ تَشْوِيشِ الشَّيْطَانِ، وَمُعَارَضَةِ الْقَدَرِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَارِكُ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ أَعْلَى مَرْتَبَةً وَأَزْكَى عَمَلًا‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ تَارِكَ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبِ أَعْلَى مَرْتَبَةً، وَأَزْكَى عَمَلًا إِذَا كَانَ عَامِلًا فِي الْعِبَادَاتِ، وَأَوْفَرُ أَجْرًا فِي الْعَادَاتِ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ عَلَى إِسْقَاطِ حَظِّهِ، بِخِلَافِ مَنْ كَانَ مُلْتَفِتًا إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ؛ فَإِنَّهُ عَامِلٌ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى الْحُظُوظِ؛ لِأَنَّ نَتَائِجَ الْأَعْمَالِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْعِبَادِ مَعَ أَنَّهَا خَلْقُ اللَّهِ؛ فَإِنَّهَا مَصَالِحُ أَوْ مَفَاسِدُ تَعُودُ عَلَيْهِمْ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ‏:‏ إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، وَأَصْلُهُ فِي الْقُرْآن‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ‏}‏ ‏[‏فُصِّلَتْ‏:‏ 46‏]‏؛ فَالْمُلْتَفِتُ إِلَيْهَا عَامِلٌ بِحَظِّهِ، وَمَنْ رَجَعَ إِلَى مُجَرَّدِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، ‏[‏عَامِلٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحُظُوظِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَرْبَابِ الْأَحْوَالِ‏]‏، وَلِهَذَا بَسْطٌ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ عَلَى أَيِّ مَعْنًى يُفْهَمُ إِسْقَاطُ النَّظَرِ فِي الْمُسَبَّبَاتِ‏؟‏، وَكَيْفَ يَنْضَبِطُ مَا يُعَدُّ كَذَلِكَ‏؟‏ مِمَّا لَا يُعَدُّ كَذَلِكَ‏؟‏

فَالْجَوَابُ أَنَّ تَرْكَ الْحُظُوظِ قَدْ يَكُونُ ظَاهِرًا، بِمَعْنَى عَدَمِ الْتِفَاتِ الْقَلْبِ إِلَيْهَا جُمْلَةً، وَهَذَا قَلِيلٌ، وَأَكْثَرُ مَا يَخْتَصُّ بِهَذَا أَرْبَابُ الْأَحْوَالِ مِنَ الصُّوفِيَّةِ، فَهُوَ يَقُومُ بِالسَّبَبِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْظُرَ هَلْ لَهُ مُسَبَّبٌ أَمْ لَا، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ظَاهِرٍ- بِمَعْنَى أَنَّ الْحَظَّ لَا يَسْقُطُ جُمْلَةً مِنَ الْقَلْبِ؛ إِلَّا أَنَّهُ الْتَفَتَ إِلَيْهِ مِنْ وَرَاءِ الْأَمْرِ أَوِ النَّهْيِ، وَيَكُونُ هَذَا مَعَ الْجَرَيَانِ عَلَى مَجَارِي الْعَادَاتِ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ اللَّهَ مُجْرِيهَا كَيْفَ شَاءَ، وَيَكُونُ أَيْضًا مَعَ طَلَبِ الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، أَيْ‏:‏ يَطْلُبُ مِنَ الْمُسَبَّبِ مُقْتَضَى السَّبَبِ؛ فَكَأَنَّهُ يَسْأَلُ الْمُسَبَّبَ بَاسِطًا يَدَ السَّبَبِ، كَمَا يَسْأَلُهُ الشَّيْءَ بَاسِطًا يَدَ الضَّرَاعَةِ أَوْ يَكُونُ مُفَوِّضًا فِي الْمُسَبَّبِ إِلَى مَنْ هُوَ إِلَيْهِ، فَهَؤُلَاءِ قَدْ أَسْقَطُوا النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبِ بِالسَّبَبِ، وَإِنَّمَا الِالْتِفَاتُ لِلْمُسَبَّبِ بِمَعْنَى الْجَرَيَانِ مَعَ السَّبَبِ؛ كَالطَّالِبِ لِلْمُسَبَّبِ مِنْ نَفْسِ السَّبَبِ أَوْ كَالْمُعْتَقِدِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُوَلِّدُ لِلْمُسَبَّبِ، فَهَذَا هُوَ الْمُخَوِّفُ الَّذِي هُوَ حَرٍ بِتِلْكَ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ، وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرَفَيْنِ، وَسَائِطُ هِيَ مَجَالُ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ، وَمِثْلُ هَذَا مُقَرَّرٌ أَيْضًا فِي مَسْأَلَةِ الْحُظُوظِ‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ‏:‏ ‏[‏اعْتِبَارُ الْمُسَبَّبَاتِ بِالْأَسْبَابِ‏]‏

مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى فِعْلِ الْأَسْبَابِ شَرْعًا، وَأَنَّ الشَّارِعَ يَعْتَبِرُ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْخِطَابِ بِالْأَسْبَابِ، يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُكَلَّفِ إِذَا اعْتَبَرَهُ أُمُورٌ‏:‏

‏[‏الْمُسَبَّبُ إِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُتَسَبِّبِ شَرْعًا‏]‏

- مِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْمُسَبَّبَ إِذَا كَانَ مَنْسُوبًا إِلَى الْمُتَسَبِّبِ شَرْعًا، ‏[‏أَوِ‏]‏ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّفُ فِي تَعَاطِي السَّبَبِ مُلْتَفِتًا إِلَى جِهَةِ الْمُسَبَّبِ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا لَيْسَ فِي حِسَابِهِ؛ فَإِنَّهُ كَمَا يَكُونُ التَّسَبُّبُ مَأْمُورًا بِهِ كَذَلِكَ يَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَكَمَا يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِي الطَّاعَةِ مُنْتِجًا مَا لَيْسَ فِي ظَنِّهِ مِنَ الْخَيْرِ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏:‏ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا»، وَقَوْلِه‏:‏ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يَظُنُّ أَنَّهَا تَبْلُغُ مَا بَلَغَتِ» الْحَدِيثَ‏.‏

كَذَلِكَ يَكُونُ التَّسَبُّبُ فِي الْمَعْصِيَةِ مُنْتِجًا مَا لَمْ يَحْتَسِبْ مِنَ الشَّرِّ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏الْمَائِدَة‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ‏:‏ «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا»، وَقَوْلِه‏:‏ «وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا»، وَقَوْلِه‏:‏ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ» الْحَدِيثَ‏.‏ إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ‏.‏

وَقَدْ قَرَّرَ الْغَزَالِيُّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الْإِحْيَاءِ، وَفِي غَيْرِهِ مَا فِيهِ كِفَايَةٌ وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الْكَسْب‏:‏ تَرْوِيجُ الدِّرْهَمِ الزَّائِفِ مِنَ الدَّرَاهِمِ فِي أَثْنَاءِ النَّقْدِ ظُلْمٌ؛ إِذْ بِهِ يَسْتَضِرُّ الْمُعَامَلُ إِنْ لَمْ يَعْرِفْ، وَإِنْ عَرَفَ فَيُرَوِّجُهُ عَلَى غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ الثَّانِي وَالثَّالِثُ، وَلَا يَزَالُ يَتَرَدَّدُ فِي الْأَيْدِي، وَيَعُمُّ الضَّرَرُ وَيَتَّسِعُ الْفَسَادُ، وَيَكُونُ وِزْرُ الْكُلِّ وَوَبَالُهُ رَاجِعًا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي فَتَحَ ذَلِكَ الْبَابَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيث‏:‏ «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً» إِلَخْ‏.‏

ثُمَّ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ إِنْفَاقَ دِرْهَمٍ زَائِفٍ أَشَدُّ مِنْ سَرِقَةِ مِائَةِ دِرْهَمٍ قَالَ‏:‏ لِأَنَّ السَّرِقَةَ مَعْصِيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَدْ تَمَّتْ وَانْقَطَعَتْ، وَإِظْهَارَ الزَّائِفِ بِدْعَةٌ أَظْهَرَهَا فِي الدِّينِ وَسَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً يُعْمَلُ عَلَيْهَا مِنْ بَعْدِهِ، فَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرُهَا بَعْدَ مَوْتِهِ إِلَى مِائَةِ سَنَةٍ، وَمِائَتَيْ سَنَةٍ إِلَى أَنْ يَفْنَى ذَلِكَ الدِّرْهَمُ، وَيَكُونُ عَلَيْهِ مَا فَسَدَ وَنَقَصَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِسَبَبِهِ، وَطُوبَى لِمَنْ مَاتَ وَمَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ، وَالْوَيْلُ الطَّوِيلُ لِمَنْ يَمُوتُ وَتَبْقَى ذُنُوبُهُ مِائَةَ سَنَةٍ، وَمِائَتَيْ سَنَةٍ يُعَذَّبُ بِهَا فِي قَبْرِهِ، وَيُسْأَلُ عَنْهَا إِلَى انْقِرَاضِهَا، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 12‏]‏ أَيْ‏:‏ نَكْتُبُ أَيْضًا مَا أَخَّرُوهُ مِنْ آثَارِ أَعْمَالِهِمْ، كَمَا نَكْتُبُ مَا قَدَّمُوهُ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ‏}‏ ‏[‏الْقِيَامَة‏:‏ 13‏]‏، وَإِنَّمَا أَخَّرَ أَثَرَ أَعْمَالِهِ، مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً عَمِلَ بِهَا غَيْرُهُ‏.‏

هَذَا مَا قَالَهُ هُنَاكَ، وَقَاعِدَةُ إِيقَاعِ السَّبَبِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبِ قَدْ بَيَّنَتْ هَذَا‏.‏

وَلَهُ فِي كِتَابِ الشُّكْرِ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هَذَا، حَيْثُ قَدَّرَ النِّعَمَ أَجْنَاسًا، وَأَنْوَاعًا، وَفَصَّلَ فِيهَا تَفَاصِيلَ جَمَّةً، ثُمَّ قَالَ‏:‏ بَلْ أَقُولُ‏:‏ مَنْ عَصَى اللَّهَ وَلَوْ فِي نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ، بِأَنْ فَتَحَ بَصَرَهُ حَيْثُ يَجِبُ غَضُّ الْبَصَرِ، فَقَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا؛ فَإِنَّ كُلَّ مَا خَلَقَ اللَّهُ حَتَّى الْمَلَائِكَةِ وَالسَّمَاوَاتِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَالنَّبَاتِ بِجُمْلَتِهِ نِعْمَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْعِبَادِ قَدْ تَمَّ بِهَا انْتِفَاعُهُ‏.‏

ثُمَّ قَرَّرَ شَيْئًا مِنَ النِّعَمِ الْعَائِدَةِ إِلَى الْبَصَرِ مِنَ الْأَجْفَانِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ قَدْ كَفَرَ نِعْمَةَ اللَّهِ فِي الْأَجْفَانِ، وَلَا تَقُومُ الْأَجْفَانُ إِلَّا بِعَيْنٍ، وَلَا الْعَيْنُ إِلَّا بِالرَّأْسِ، وَلَا الرَّأْسُ إِلَّا بِجَمِيعِ الْبَدَنِ، وَلَا الْبَدَنُ إِلَّا بِالْغِذَاءِ، وَلَا الْغِذَاءُ إِلَّا بِالْمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ وَالْمَطَرِ وَالْغَيْمِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَلَا يَقُومُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا بِالسَّمَاوَاتِ، وَلَا السَّمَاوَاتُ إِلَّا بِالْمَلَائِكَةِ؛ فَإِنَّ الْكُلَّ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ يَرْتَبِطُ الْبَعْضُ مِنْهُ بِالْبَعْضِ، ارْتِبَاطَ أَعْضَاءِ الْبَدَنِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَكَذَلِكَ وَرَدَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ الْبُقْعَةَ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا النَّاسُ؛ إِمَّا أَنْ تَلْعَنَهُمْ إِذَا تَفَرَّقُوا أَوْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ‏.‏

وَلِذَلِكَ وَرَدَ‏:‏ «إِنَّ الْعَالِمَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ حَتَّى الْحُوتُ فِي الْبَحْرِ»، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْعَاصِيَ بِتَطْرِيفَةٍ وَاحِدَةٍ، جَنَى عَلَى جَمِيعِ مَا فِي الْمُلْكِ وَالْمَلَكُوتِ، وَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِلَى أَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ بِحَسَنَةٍ تَمْحُوهَا، فَيَتَبَدَّلُ اللَّعْنُ بِالِاسْتِغْفَارِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ، ثُمَّ حَكَى غَيْرَ ذَلِكَ، وَمَضَى فِي كَلَامِهِ‏.‏

فَإِذَا نَظَرَ الْمُتَسَبِّبُ إِلَى مَآلَاتِ الْأَسْبَابِ؛ فَرُبَّمَا كَانَ بَاعِثًا لَهُ عَلَى التَّحَرُّزِ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ؛ إِذْ يَبْدُو لَهُ يَوْمَ الدِّينِ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ يَحْتَسِبُ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏فِي ارْتِفَاعِ الْإِشْكَالَاتِ الَّتِي تَرِدُ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ أَحْكَامِ أَسْبَابٍ تَقَدَّمَتْ مَعَ أَسْبَابٍ أُخَرَ حَاضِرَةٍ‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ إِذَا الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ مَعَ أَسْبَابِهَا، رُبَّمَا ارْتَفَعَتْ عَنْهُ إِشْكَالَاتٌ تَرِدُ فِي الشَّرِيعَةِ بِسَبَبِ تَعَارُضِ أَحْكَامِ أَسْبَابٍ تَقَدَّمَتْ مَعَ أَسْبَابٍ أُخَرَ حَاضِرَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ مُتَعَاطِيَ السَّبَبِ قَدْ يَبْقَى عَلَيْهِ حُكْمُهُ، وَإِنْ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ تَابَ مِنْهُ، فَيَظُنُّ أَنَّ الْمُسَبَّبَ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِرُجُوعِهِ عَنِ السَّبَبِ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ‏.‏

مِثَالُهُ‏:‏ مَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً، ثُمَّ تَابَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْهَا، فَالظَّاهِرُ الْآنَ أَنَّهُ لَمَّا أُمِرَ بِالْخُرُوجِ فَأَخَذَ فِي الِامْتِثَالِ غَيْرُ عَاصٍ وَلَا مُؤَاخَذٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَكُونَ مُمْتَثِلًا عَاصِيًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَا مَأْمُورًا مَنْهِيًّا مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي تَوَسُّطِهِ مُكَلَّفًا بِالْخُرُوجِ عَلَى وَجْهٍ يُمْكِنُهُ، وَلَا يُمْكِنُ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ النَّهْيِ فِي نَفْسِ الْخُرُوجِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَرْتَفِعَ عَنْهُ حُكْمُ النَّهْيِ فِي الْخُرُوجِ‏.‏

وَقَالَ أَبُو هَاشِمٍ‏:‏ هُوَ عَلَى حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا بِانْفِصَالِهِ عَنِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَرَدَّ النَّاسُ عَلَيْهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، وَالْإِمَامُ أَشَارَ فِي الْبُرْهَانِ إِلَى تَصَوُّرِ هَذَا وَصِحَّتِهِ، بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الَّذِي هُوَ عِصْيَانٌ؛ فَانْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّسَبُّبِ، وَإِنِ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ، وَنَظَّرَ ذَلِكَ بِمَسَائِلَ، وَهُوَ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ؛ فَإِنَّ أَصْلَ التَّسَبُّبِ أَنْتَجَ مُسَبَّبَاتٍ خَارِجَةً عَنْ نَظَرِهِ، فَلَوْ نَظَرَ الْجُمْهُورُ إِلَيْهَا لَمْ يَسْتَبْعِدُوا اجْتِمَاعَ الِامْتِثَالِ مَعَ اسْتِصْحَابِ حُكْمِ الْمَعْصِيَةِ إِلَى الِانْفِصَالِ عَنِ الْأَرْضِ الْمَغْصُوبَةِ، وَهَذَا أَيْضًا يَنْبَنِي عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ خَارِجٌ عَنْ نَظَرِهِ؛ فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى ذَلِكَ، وَجَدَ نَفْسَ الْخُرُوجِ ذَا وَجْهَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ وَجْهُ كَوْنِ الْخُرُوجِ سَبَبًا فِي الْخُلُوصِ عَنِ التَّعَدِّي بِالدُّخُولِ فِي الْأَرْضِ، وَهُوَ مِنْ كَسْبِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ كَوْنُهُ نَتِيجَةَ دُخُولِهِ ابْتِدَاءً، وَلَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ؛ إِذْ لَيْسَ لَهُ قُدْرَةٌ عَنِ الْكَفِّ عَنْهُ‏.‏

وَمِنْ هَذَا‏:‏ مَسْأَلَةُ مَنْ تَابَ عَنِ الْقَتْلِ بَعْدَ رَمْيِ السَّهْمِ عَنِ الْقَوْسِ، وَقَبْلَ وُصُولِهِ إِلَى الرَّمِيَّةِ، وَمَنْ تَابَ مِنْ بِدْعَةٍ بَعْدَ مَا بَثَّهَا فِي النَّاسِ، وَقَبْلَ أَخْذِهِمْ بِهَا أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَبْلَ رُجُوعِهِمْ عَنْهَا، وَمَنْ رَجَعَ عَنْ شَهَادَتِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِهَا وَقَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ، وَبِالْجُمْلَةِ بَعْدَ تَعَاطِي السَّبَبِ عَلَى كَمَالِهِ وَقَبْلَ تَأْثِيرِهِ، وَوُجُودِ مَفْسَدَتِهِ أَوْ بَعْدَ وُجُودِهَا، وَقَبْلَ ارْتِفَاعِهَا إِنْ أَمْكَنَ ارْتِفَاعُهَا، فَقَدِ اجْتَمَعَ عَلَى الْمُكَلَّفِ هُنَا الِامْتِثَالُ مَعَ بَقَاءِ الْعِصْيَانِ؛ فَإِنِ اجْتَمَعَا فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ كَمَا فِي الْمِثَالِ الْأَوَّلِ، كَانَ عَاصِيًا مُمْتَثِلًا، إِلَّا أَنَّ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ لَا يَتَوَارَدَانِ عَلَيْهِ فِي هَذَا التَّصْوِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ الْعِصْيَانِ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسَبَّبٌ غَيْرُ دَاخِلٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ فَلَا نَهْيَ إِذْ ذَاكَ، وَمِنْ جِهَةِ الِامْتِثَالِ مُكَلَّفٌ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُرُوجِ وَمُمْتَثِلٌ بِهِ، وَهَذَا مَعْنَى مَا أَرَادَهُ الْإِمَامُ‏.‏ وَمَا اعْتُرِضَ بِهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَبِي هَاشِمٍ لَا يَرِدُ مَعَ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ إِذَا تَأَمَّلْتَهَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمُسَبَّبَاتُ عَلَامَةٌ عَلَى فَسَادٍ أَوْ صِحَّةِ الْأَعْمَالِ‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْعَادَةِ تَجْرِي عَلَى وِزَانِ الْأَسْبَابِ فِي الِاسْتِقَامَةِ أَوِ الِاعْوِجَاجِ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ تَامًّا، وَالتَّسَبُّبُ عَلَى مَا يَنْبَغِي، كَانَ الْمُسَبَّبُ كَذَلِكَ، وَبِالضِّدِّ‏.‏

وَمِنْ هَاهُنَا إِذَا وَقَعَ خَلَلٌ فِي الْمُسَبَّبِ، نَظَرَ الْفُقَهَاءُ إِلَى التَّسَبُّبِ هَلْ كَانَ عَلَى تَمَامِهِ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنْ كَانَ عَلَى تَمَامِهِ لَمْ يَقَعْ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ لَوْمٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى تَمَامِهِ رَجَعَ اللَّوْمُ وَالْمُؤَاخَذَةُ عَلَيْهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُضَمِّنُونَ الطَّبِيبَ وَالْحَجَّامَ وَالطَّبَّاخَ وَغَيْرَهُمْ مِنَ الصُّنَّاعِ إِذَا ثَبَتَ التَّفْرِيطُ مِنْ أَحَدِهِمْ، إِمَّا بِكَوْنِهِ غَرَّ مِنْ نَفْسِهِ وَلَيْسَ بِصَانِعٍ، وَإِمَّا بِتَفْرِيطٍ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يُفَرِّطْ؛ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ أَوْ وُقُوعِهَا عَلَى غَيْرِ وِزَانِ التَّسَبُّبِ قَلِيلٌ فَلَا يُؤَاخَذُ، بِخِلَافِ مَا إِذَا لَمْ يَبْذُلِ الْجَهْدَ؛ فَإِنَّ الْغَلَطَ فِيهَا كَثِيرٌ؛ فَلَا بُدَّ مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ‏.‏

فَمَنِ الْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ حَيْثُ كَانَتْ عَلَامَةً عَلَى الْأَسْبَابِ فِي الصِّحَّةِ أَوِ الْفَسَادِ لَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، فَقَدْ حَصَلَ عَلَى قَانُونٍ عَظِيمٍ يَضْبُطُ بِهِ جَرَيَانَ الْأَسْبَابِ عَلَى وِزَانِ مَا شُرِعَ أَوْ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَمِنْ هُنَا جُعِلَتِ الْأَعْمَالُ الظَّاهِرَةُ فِي الشَّرْعِ دَلِيلًا عَلَى مَا فِي الْبَاطِنِ؛ فَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ مُنْخَرِمًا حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ أَوْ مُسْتَقِيمًا حُكِمَ عَلَى الْبَاطِنِ بِذَلِكَ أَيْضًا، وَهُوَ أَصْلٌ عَامٌّ فِي الْفِقْهِ وَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْعَادِيَّاتِ وَالتَّجْرِيبِيَّاتِ، بَلِ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ نَافِعٌ فِي جُمْلَةِ الشَّرِيعَةِ جِدًّا، وَالْأَدِلَّةُ عَلَى صِحَّتِهِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَكَفَى بِذَلِكَ عُمْدَةً أَنَّهُ الْحَاكِمُ بِإِيمَانِ الْمُؤْمِنِ وَكُفْرِ الْكَافِرِ وَطَاعَةِ الْمُطِيعِ وَعِصْيَانِ الْعَاصِي وَعَدَالَةِ الْعَدْلِ وَجَرْحَةِ الْمُجَرَّحِ، وَبِذَلِكَ تَنْعَقِدُ الْعُقُودُ، وَتَرْتَبِطُ الْمَوَاثِيقُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ، بَلْ هُوَ كُلِّيَةُ التَّشْرِيعِ، وَعُمْدَةُ التَّكْلِيفِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِقَامَةِ حُدُودِ الشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏الْمُسَبَّبَاتُ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً‏]‏

- وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ قَدْ تَكُونُ خَاصَّةً، وَقَدْ تَكُونُ عَامَّةً، وَمَعْنَى كَوْنِهَا خَاصَّةً‏:‏ أَنْ تَكُونَ بِحَسَبِ وَقْعِ السَّبَبِ، كَالْبَيْعِ الْمُتَسَبَّبِ بِهِ إِلَى إِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَبِيعِ، وَالنِّكَاحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ حِلِّيَّةُ الِاسْتِمْتَاعِ، وَالذَّكَاةِ الَّتِي بِهَا يَحْصُلُ حِلُّ الْأَكْلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ جَانَبُ النَّهْيِ، كَالسُّكْرِ النَّاشِئِ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَإِزْهَاقِ الرُّوحِ الْمُسَبَّبِ عَنْ حَزِّ الرَّقَبَةِ‏.‏

وَأَمَّا الْعَامَّةُ؛ فَكَالطَّاعَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ فِي الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ، وَالْمَعَاصِي الَّتِي هِيَ سَبَبٌ فِي دُخُولِ الْجَحِيمِ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْمَعَاصِي الَّتِي يَتَسَبَّبُ عَنْهَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ، كَنَقْصِ الْمِكْيَالِ وَالْمِيزَانِ الْمُسَبَّبِ عَنْهُ قَطْعُ الرِّزْقِ، وَالْحُكْمِ بِغَيْرِ الْحَقِّ النَّاشِئِ عَنْهُ الدَّمُ، وَخَتْرِ الْعَهْدِ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ تَسْلِيطُ الْعَدُوِّ، وَالْغُلُولِ الَّذِي يَكُونُ عَنْهُ قَذْفُ الرُّعْبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَضْدَادَ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَسَبَّبُ عَنْهَا أَضْدَادُ مُسَبَّبَاتِهَا‏.‏

فَإِذَا نَظَرَ الْعَامِلُ فِيمَا يَتَسَبَّبُ عَنْ عَمَلِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ أَوِ الشُّرُورِ، اجْتَهَدَ فِي اجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَامْتِثَالِ الْمَأْمُورَاتِ، رَجَاءً فِي اللَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ، وَلِهَذَا جَاءَ الْإِخْبَارُ فِي الشَّرِيعَةِ بِجَزَاءِ الْأَعْمَالِ، وَبِمُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ، وَالْفَوَائِدُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْأُصُولِ كَثِيرَةٌ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏مَوَاضِعُ الِالْتِفَاتِ إِلَى الْأَسْبَابِ وَالضَّابِطُ فِيهَا أَنْ لَا يَمُرَّ عَلَى الْأَصْلِ بِالْفَسَادِ‏]‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ تَقَرَّرَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ يَسْتَجْلِبُ مَفَاسِدَ، وَالْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى هَذَا أَنْ لَا يُلْتَفَتَ إِلَى الْمُسَبَّبِ فِي التَّسَبُّبِ، وَتَبَيَّنَ الْآنَ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمُسَبَّبَاتِ يَسْتَجِرُّ مَصَالِحَ، وَالْجَارِي عَلَى مُقْتَضَى هَذَا أَنْ يُلْتَفَتَ إِلَيْهَا؛ فَإِنْ كَانَ هَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ كَانَ تَنَاقُضًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْإِطْلَاقِ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْيِينِ مَوْضِعِ الِالْتِفَاتِ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَصَالِحَ، مِنَ الِالْتِفَاتِ الَّذِي يَجُرُّ الْمَفَاسِدَ بِعَلَامَةٍ يُوقَفُ عِنْدَهَا أَوْ ضَابِطٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ‏.‏

فَالْجَوَابُ‏:‏ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَبْسُوطٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَلَكِنَّ ضَابِطَهُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ الِالْتِفَاتُ إِلَى الْمُسَبَّبِ مِنْ شَأْنِهِ التَّقْوِيَةُ لِلسَّبَبِ وَالتَّكْمِلَةُ لَهُ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إِكْمَالِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَصْلَحَةَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُرَّ عَلَى السَّبَبِ بِالْإِبْطَالِ أَوْ بِالْإِضْعَافِ أَوْ بِالتَّهَاوُنِ بِهِ؛ فَهُوَ الَّذِي يَجْلِبُ الْمَفْسَدَةَ‏.‏

وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ عَلَى ضَرْبَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا شَأْنُهُ ذَلِكَ بِإِطْلَاقٍ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ يُقَوِّي السَّبَبَ أَوْ يُضْعِفُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ زَمَانٍ، وَبِالنِّسْبَةِ إِلَى كُلِّ حَالٍ يَكُونُ عَلَيْهَا الْمُكَلَّفُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَا شَأْنُهُ ذَلِكَ لَا بِإِطْلَاقٍ، بَلْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ الْأَزْمِنَةِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ أَحْوَالِ الْمُكَلَّفِ دُونَ بَعْضٍ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى قِسْمَيْن‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مَا يَكُونُ فِي التَّقْوِيَةِ أَوِ التَّضْعِيفِ مَقْطُوعًا بِهِ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ مَظْنُونًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ؛ فَيَكُونُ مَوْضِعَ نَظَرٍ وَتَأَمُّلٍ؛ فَيُحْكَمُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ، وَيُوقَفُ عِنْدَ تَعَارُضِ الظُّنُونِ، وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مُجْمَلَةٌ غَيْرُ مُفَسَّرَةٍ، وَلَكِنْ إِذَا رُوجِعَ مَا تَقَدَّمَ وَمَا يَأْتِي؛ ظَهَرَ مَغْزَاهُ، وَتَبَيَّنَ مَعْنَاهُ بِحَوْلِ اللَّهِ‏.‏

وَيَخْرُجُ عَنْ هَذَا التَّقْسِيمِ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَإِنَّ عَلَى الْمُجْتَهِدِ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْأَسْبَابِ وَمُسَبَّبَاتِهَا لِمَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنَ التَّقْسِيمِ رَاجِعٌ إِلَى أَصْحَابِ الْأَعْمَالِ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَعَارُضُ الْأَصْلَيْنِ مَعًا عَلَى الْمُجْتَهِدِ‏]‏

وَقَدْ يَتَعَارَضُ الْأَصْلَانِ مَعًا عَلَى الْمُجْتَهِدِينَ؛ فَيَمِيلُ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّه‏:‏ فَقَدْ قَالُوا فِي السَّكْرَانِ إِذَا طَلَّقَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ فَعَلَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فِيهِ أَوِ الْقِصَاصُ‏:‏ عُومِلَ مُعَامَلَةَ مَنْ فَعَلَهَا عَاقِلًا اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الثَّانِي، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ بِأَنَّهُ كَالْمَجْنُونِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ الْأَوَّلِ عَلَى تَفْصِيلٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْكُورٍ فِي الْفِقْهِ، وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي تَرَخُّصِ الْعَاصِي بِسَفَرِهِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلَيْنِ أَيْضًا، وَاخْتَلَفُوا فِي قَضَاءِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ، وَفِي قَطْعِ التَّتَابُعِ بِالسَّفَرِ الِاخْتِيَارِيِّ إِذَا عَرَضَ لَهُ فِيهِ عُذْرٌ أَفْطَرَ مِنْ أَجْلِهِ، وَكَذَلِكَ اخْتَلَفُوا فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ إِذَا اضْطُرَّ بِسَبَبِ السَّفَرِ الَّذِي عَصَى بِسَبَبِهِ، وَعَلَيْهِمَا يَجْرِي الْخِلَافُ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلَ هَذَا بَيْنَ أَبِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِ، فِيمَنْ تَوَسَّطَ أَرْضًا مَغْصُوبَةً‏.‏

الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ‏:‏ ‏[‏الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لَا لِلْمَصَالِحِ‏]‏

الْأَسْبَابُ الْمَمْنُوعَةُ أَسْبَابٌ لِلْمَفَاسِدِ لَا لِلْمَصَالِحِ، كَمَا أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ أَسْبَابٌ لِلْمَصَالِحِ لَا لِلْمَفَاسِدِ، مِثَالُ ذَلِكَ‏:‏ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ؛ فَإِنَّهُ أَمْرٌ مَشْرُوعٌ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِقَامَةِ الدِّينِ، وَإِظْهَارِ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ، وَإِخْمَادِ الْبَاطِلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ- فِي الْوَضْعِ الشَّرْعِيِّ- لِإِتْلَافِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ، وَلَا نَيْلٍ مِنْ عِرْضٍ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ، وَكَذَلِكَ الْجِهَادُ مَوْضُوعٌ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَفْسَدَةٍ فِي الْمَالِ أَوِ النَّفْسِ، وَدَفْعُ الْمُحَارِبِ مَشْرُوعٌ لِرَفْعِ الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، وَالطَّلَبُ بِالزَّكَاةِ مَشْرُوعٌ لِإِقَامَةِ ذَلِكَ الرُّكْنِ مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْقِتَالِ، كَمَا فَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَالْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ لِمَصْلَحَةِ الزَّجْرِ عَنِ الْفَسَادِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى إِتْلَافِ النُّفُوسِ وَإِهْرَاقِ الدِّمَاءِ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ، وَإِقْرَارُ حُكْمِ الْحَاكِمِ مَشْرُوعٌ لِمَصْلَحَةِ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ هَذَا فِي الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ‏.‏

وَأَمَّا فِي الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ؛ فَالْأَنْكِحَةُ الْفَاسِدَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَإِنْ أَدَّتْ إِلَى إِلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَثُبُوتِ الْمِيرَاثِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْكَامِ وَهِيَ مَصَالِحُ، وَالْغَصْبُ مَمْنُوعٌ لِلْمَفْسَدَةِ اللَّاحِقَةِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ، وَإِنْ أَدَّى إِلَى مَصْلَحَةِ الْمُلْكِ عِنْدَ تَغَيُّرِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْفَوْتِ‏.‏

فَالَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ هَذِهِ الْمَفَاسِدَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَشْرُوعَةِ، ‏[‏وَالْمَصَالِحَ النَّاشِئَةَ عَنِ الْأَسْبَابِ الْمَمْنُوعَةِ‏]‏ لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنْهَا فِي الْحَقِيقَةِ، وَإِنَّمَا هِيَ نَاشِئَةٌ عَنْ أَسْبَابٍ أُخَرَ مُنَاسِبَةٍ لَهَا‏.‏

وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ ظَاهِرٌ؛ فَإِنَّهَا إِذَا كَانَتْ مَشْرُوعَةً؛ فَإِمَّا أَنْ تُشْرَعَ لِلْمَصَالِحِ أَوْ لِلْمَفَاسِدِ أَوْ لَهُمَا مَعًا أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُشْرَعَ لِلْمَفَاسِدِ؛ لِأَنَّ السَّمْعَ يَأْبَى ذَلِكَ، فَقَدْ ثَبَتَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى أَنَّ ‏[‏تِلْكَ‏]‏ الشَّرِيعَةَ إِنَّمَا جِيءَ بِالْأَوَامِرِ فِيهَا جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ غَيْرَ وَاجِبٍ فِي الْعُقُولِ فَقَدْ ثَبَتَ فِي السَّمْعِ، وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ تُشْرَعَ لَهُمَا مَعًا بِعَيْنِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلَا لِغَيْرِ شَيْءٍ لِمَا ثَبَتَ مِنَ السَّمْعِ أَيْضًا؛ فَظَهَرَ أَنَّهَا شُرِعَتْ لِلْمَصَالِحِ‏.‏

وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَمِرُّ فِيمَا مُنِعَ، إِمَّا أَنْ يُمْنَعَ لِأَنَّ فِعْلَهُ مُؤَدٍّ إِلَى مَفْسَدَةٍ أَوْ إِلَى مَصْلَحَةٍ أَوْ إِلَيْهِمَا أَوْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَالدَّلِيلُ جَارٍ إِلَى آخِرِهِ؛ فَإِذًا لَا سَبَبَ مَشْرُوعٌ إِلَّا وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِهَا شُرِعَ؛ فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَشْرُوعِ‏.‏

وَأَيْضًا؛ فَلَا سَبَبَ مَمْنُوعٌ إِلَّا وَفِيهِ مَفْسَدَةٌ لِأَجْلِهَا مُنِعَ؛ فَإِنْ رَأَيْتَهُ وَقَدِ انْبَنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ فِيمَا يَظْهَرُ، فَاعْلَمْ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَاشِئَةٍ عَنِ السَّبَبِ الْمَمْنُوعِ، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مَا وُضِعَ لَهُ فِي الشَّرْعِ إِنْ كَانَ مَشْرُوعًا، وَمَا مُنِعَ لِأَجْلِهِ إِنْ كَانَ مَمْنُوعًا، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ مَثَلًا، لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الشَّارِعُ إِتْلَافَ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ، وَإِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ يَتْبَعُ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لِرَفْعِ الْحَقِّ، وَإِخْمَادِ الْبَاطِلِ، كَالْجِهَادِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ إِتْلَافَ النُّفُوسِ، بَلْ إِعْلَاءَ الْكَلِمَةِ، لَكِنْ يَتْبَعُهُ فِي الطَّرِيقِ الْإِتْلَافُ مِنْ جِهَةِ نَصْبِ الْإِنْسَانِ نَفْسَهُ فِي مَحَلٍّ يَقْتَضِي تَنَازُعَ الْفَرِيقَيْنِ، وَشَهْرَ السِّلَاحِ، وَتَنَاوُلَ الْقِتَالِ، وَالْحُدُودُ وَأَشْبَاهُهَا يَتْبَعُ الْمَصْلَحَةَ فِيهَا الْإِتْلَافُ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إِقَامَةُ الْمَصْلَحَةِ إِلَّا بِذَلِكَ، وَحُكْمُ الْحَاكِمِ سَبَبٌ لِدَفْعِ التَّشَاجُرِ وَفَصْلِ الْخُصُومَاتِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، حَتَّى تَكُونَ الْمَصْلَحَةُ ظَاهِرَةً، وَكَوْنُ الْحَاكِمِ مُخْطِئًا رَاجِعٌ إِلَى أَسْبَابٍ أُخَرَ، مِنْ تَقْصِيرٍ فِي النَّظَرِ أَوْ كَوْنِ الظَّاهِرِ عَلَى خِلَافِ الْبَاطِنِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ دَلِيلٌ، وَلَيْسَ بِمَقْصُودٍ فِي أَمْرِ الْحَاكِمِ، وَلَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ إِذَا كَانَ لَهُ مَسَاغٌ مَا بِسَبَبِ أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْفَسْخَ يُؤَدِّي إِلَى ضِدِّ مَا نُصِبَ لَهُ الْحَاكِمُ مِنَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخُصُومِ، وَرَفْعِ التَّشَاجُرِ؛ فَإِنَّ الْفَسْخَ ضِدُّ الْفَصْلِ‏.‏

وَأَمَّا قِسْمُ الْمَمْنُوعِ؛ فَإِنَّ ثُبُوتَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ إِنَّمَا نَشَأَ مِنَ الْحُكْمِ بِالتَّصْحِيحِ لِذَلِكَ النِّكَاحِ بَعْدَ الْوُقُوعِ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ فَاسِدًا حَسْبَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَوْضِعِهِ، وَالْبُيُوعُ الْفَاسِدَةُ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، لِأَنَّ لِلْيَدِ الْقَابِضَةِ هَنَا حُكْمَ الضَّمَانِ شَرْعًا، فَصَارَ الْقَابِضُ كَالْمَالِكِ لِلسِّلْعَةِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ لَا بِسَبَبِ الْعَقْدِ، فَإِذَا فَاتَتْ عَيْنُهَا تَعَيَّنَ الْمِثْلُ أَوِ الْقِيمَةُ، وَإِنْ بَقِيَتْ عَلَى غَيْرِ تَغَيُّرٍ، وَلَا وَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَوْتِ، فَالْوَاجِبُ مَا يَقْتَضِيهِ النَّهْيُ مِنَ الْفَسَادِ فَإِذَا حَصَلَ فِيهَا تَغَيُّرٌ أَوْ نَحْوُهُ مِمَّا لَيْسَ بِمُفِيتٍ لِلْعَيْنِ؛ تَوَارَدَتْ أَنْظَارُ الْمُجْتَهِدِينَ هَلْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْفَوْتِ جُمْلَةً بِسَبَبِ التَّغَيُّرِ أَمْ لَا‏؟‏ فَبَقِيَ حُكْمُ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ، إِلَّا أَنَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْفَسْخِ حَمْلًا عَلَى صَاحِبِ السِّلْعَةِ إِذَا رُدَّتْ عَلَيْهِ مُتَغَيِّرَةً مَثَلًا، كَمَا أَنَّ فِيهَا حَمْلًا عَلَى الْمُشْتَرِي، حَيْثُ أَعْطَى ثَمَنًا، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مَا تَعَنَّى فِيهِ مِنْ وُجُوهِ التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْمَبِيعِ، فَكَانَ الْعَدْلُ النَّظَرَ فِيمَا بَيْنَ هَذَيْنِ، فَاعْتُبِرَ فِي الْفَوْتِ حَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ، وَالتَّغَيُّرُ الَّذِي لَمْ يَفُتِ الْعَيْنَ، وَانْتِقَالُ الْمِلْكِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْوُجُوهِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُتُبِ الْفُقَهَاءِ، وَحَاصِلُهَا أَنَّ عَدَمَ الْفَسْخِ وَتَسْلِيطَ الْمُشْتَرِي عَلَى الِانْتِفَاعِ لَيْسَ سَبَبُهُ الْعَقْدَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ، بَلِ الطَّوَارِئَ الْمُتَرَتِّبَةَ بَعْدَهُ، وَالْغَصْبُ مِنْ هَذَا النَّحْوِ أَيْضًا؛ فَإِنَّ عَلَى الْيَدِ الْعَادِيَةِ حُكْمَ الضَّمَانِ شَرْعًا، وَالضَّمَانُ يَسْتَلْزِمُ تَعَيُّنَ الْمِثْلِ أَوِ الْقِيمَةِ فِي الذِّمَّةِ، فَاسْتَوَى فِي هَذَا الْمَعْنَى مَعَ الْمَالِكِ بِوَجْهٍ مَا، فَصَارَ لَهُ بِذَلِكَ شُبْهَةُ مِلْكٍ فَإِذَا حَدَثَ فِي الْمَغْصُوبِ حَادِثٌ تَبْقَى مَعَهُ الْعَيْنُ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ صَارَ مَحَلَّ اجْتِهَادٍ، نَظَرًا إِلَى حَقِّ صَاحِبِ الْمَغْصُوبِ، وَإِلَى الْغَاصِبِ؛ إِذْ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ غَصْبُهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِ فِي الْغُرْمِ عُقُوبَةً لَهُ، كَمَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يُظْلَمُ بِنَقْصِ حَقِّهِ، فَكَانَ فِي ذَلِكَ الِاجْتِهَادُ بَيْنَ هَذَيْنِ، فَالسَّبَبُ فِي تَمَلُّكِ الْغَاصِبِ الْمَغْصُوبَ لَيْسَ نَفْسَ الْغَصْبِ، بَلِ التَّضْمِينَ أَوَّلًا، مُنْضَمًّا إِلَى مَا حَدَثَ بَعْدُ فِي الْمَغْصُوبِ، فَعَلَى هَذَا النَّوْعِ أَوْ شَبَهِهِ يَجْرِي النَّظَرُ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الْأَسْبَابَ الْمَشْرُوعَةَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلْمَفَاسِدِ، وَالْأَسْبَابَ الْمَمْنُوعَةَ لَا تَكُونُ أَسْبَابًا لِلْمَصَالِحِ؛ إِذْ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِحَالٍ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏أَحْكَامٌ تَرَتَّبَتْ عَلَى ذَلِكَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ‏]‏

وَعَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ يُفْهَمُ حُكْمُ كَثِيرٍ مِنَ الْمَسَائِلِ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ‏.‏

فَفِي الْمَذْهَبِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ أَنْ يَقْضِيَ فُلَانًا حَقَّهُ إِلَى زَمَانِ كَذَا، ثُمَّ خَافَ الْحِنْثَ بِعَدَمِ الْقَضَاءِ فَخَالَعَ زَوْجَتَهُ حَتَّى انْقَضَى الْأَجَلُ وَوَقَعَ الْحِنْثُ وَلَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ ثُمَّ رَاجَعَهَا، أَنَّ الْحِنْثَ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُهُ مَذْمُومًا وَفِعْلُهُ مَذْمُومًا؛ لِأَنَّهُ احْتَالَ بِحِيلَةٍ أَبْطَلَتْ حَقًّا، فَكَانَتِ الْمُخَالَعَةُ مَمْنُوعَةً، وَإِنْ أَثْمَرَتْ عَدَمَ الْحِنْثِ لِأَنَّ عَدَمَ الْحِنْثِ لَمْ يَكُنْ بِسَبَبِ الْمُخَالَعَةِ، بَلْ بِسَبَبِ أَنَّهُ حَنِثَ، وَلَا زَوْجَةَ لَهُ فَلَمْ يُصَادِفِ الْحِنْثُ مَحَلًّا‏.‏

وَكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّخْمِيِّ فِيمَنْ قَصَدَ بِسَفَرِهِ التَّرَخُّصَ بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُفْطِرَ، وَإِنْ كُرِهَ لَهُ هَذَا الْقَصْدُ؛ لِأَنَّ فِطْرَهُ بِسَبَبِ الْمَشَقَّةِ اللَّازِمَةِ لِلسَّفَرِ لَا بِسَبَبِ نَفْسِ السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ، وَإِنْ عَلَّلَ الْفِطْرَ بِالسَّفَرِ فَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْمَشَقَّةِ لَا لِنَفْسِ السَّفَرِ، وَيُحَقِّقُ ذَلِكَ أَنَّ الَّذِي كُرِهَ لَهُ السَّفَرُ الَّذِي هُوَ مِنْ كَسْبِهِ، وَالْمَشَقَّةُ خَارِجَةٌ عَنْ كَسْبِهِ، فَلَيْسَتِ الْمَشَقَّةُ هِيَ عَيْنَ الْمَكْرُوهِ لَهُ بَلْ سَبَبَهَا، وَالْمُسَبَّبُ هُوَ السَّبَبُ فِي الْفِطْرِ‏.‏

فَأَمَّا لَوْ فَرَضْنَا أَنَّ السَّبَبَ الْمَمْنُوعَ لَمْ يُثْمِرْ مَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِمَصْلَحَةٍ أَوِ السَّبَبَ الْمَشْرُوعَ لَمْ يُثْمِرْ مَا يَنْهَضُ سَبَبًا لِمَفْسَدَةٍ، فَلَا يَكُونُ عَنِ الْمَشْرُوعِ مَفْسَدَةٌ تُقْصَدُ شَرْعًا، وَلَا عَنِ الْمَمْنُوعِ مَصْلَحَةٌ تُقْصَدُ شَرْعًا، وَذَلِكَ كَحِيَلِ أَهْلِ الْعِينَةِ فِي جَعْلِ السِّلْعَةِ وَاسِطَةً فِي بَيْعِ الدِّينَارِ بِالدِّينَارَيْنِ إِلَى أَجَلٍ، فَهُنَا طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ‏:‏ طَرَفٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ سَبَبًا ثَابِتًا عَلَى حَالٍ كَالْحِيلَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَطَرَفٌ تَضَمَّنَ سَبَبًا قَطْعًا أَوْ ظَنًّا كَتَغْيِيرِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ، فَيُمَلَّكُهُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَعْلُومِ، وَوَاسِطَةٌ لَمْ يَنْتَفِ فِيهَا السَّبَبُ أَلْبَتَّةَ، وَلَا ثَبَتَ قَطْعًا، فَهُوَ مَحَلُّ أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏قَدْ يَكُونُ لِلْمَسَائِلِ نَظَرٌ مِنْ بَابٍ آخَرَ‏]‏

هَذَا كُلُّهُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الْفَرْعِيَّةِ بِهَذَا الْأَصْلِ الْمُقَرَّرِ؛ فَإِنْ تُؤُمِّلَتْ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، كَانَ الْحُكْمُ آخَرَ، وَتَرَدَّدَ النَّاظِرُونَ فِيهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَحَلًّا لِلتَّرَدُّدِ‏.‏

وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ إِيقَاعَ الْمُكَلَّفِ الْأَسْبَابَ فِي حُكْمِ إِيقَاعِ الْمُسَبَّبَاتِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ؛ اقْتَضَى أَنَّ الْمُسَبَّبَ فِي حُكْمِ الْوَاقِعِ بِاخْتِيَارِهِ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا شَرْعِيًّا، فَلَا يَقَعُ لَهُ مُقْتَضًى، فَالْعَاصِي بِسَفَرِهِ لَا يَقْصُرُ وَلَا يُفْطِرُ؛ لِأَنَّ الْمَشَقَّةَ كَأَنَّهَا وَاقِعَةٌ بِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهَا نَاشِئَةٌ عَنْ سَبَبِهِ، وَالْمُحْتَالُ لِلْحِنْثِ بِمُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ لَا يُخَلِّصُهُ احْتِيَالُهُ مِنَ الْحِنْثِ، بَلْ يَقَعُ عَلَيْهِ إِذَا رَاجَعَهَا، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ لِمُرَاجَعَةِ زَوْجَتِهِ بِنِكَاحِ الْمُحَلِّلِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ؛ فَهَاهُنَا إِذَا رُوجِعَ الْأَصْلَانِ، كَانَتِ الْمَسَائِلُ فِي مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، فَمَنْ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ أَصْلٌ قَالَ بِمُقْتَضَاهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏النَّظَرُ إِلَى الْمُسَبَّبَاتِ الْعَادِيَّةِ‏]‏

مَا تَقَدَّمَ فِي هَذَا الْأَصْلِ نَظَرٌ فِي مُسَبَّبَاتِ الْأَسْبَابِ، مِنْ حَيْثُ كَانَتِ الْأَسْبَابُ مَشْرُوعَةً أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعَةٍ، أَيْ‏:‏ مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ دَاخِلَةٌ تَحْتَ نَظَرِ الشَّرْعِ، لَا مِنْ جِهَةِ مَا هِيَ أَسْبَابٌ عَادِيَّةٌ لِمُسَبَّبَابٍ عَادِيَّةٍ؛ فَإِنَّهَا إِذَا نُظِرَ إِلَيْهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ النَّظَرُ فِيهَا آخَرَ؛ فَإِنَّ قَصْدَ التَّشَفِّي بِقَصْدِ الْقَتْلِ مُتَسَبِّبٌ فِيمَا هُوَ عِنْدَهُ مَصْلَحَةٌ أَوْ دَفْعُ مَفْسَدَةٍ، وَكَذَلِكَ تَارِكُ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ إِنَّمَا تَرَكَهَا فِرَارًا مِنْ إِتْعَابِ النَّفْسِ، وَقَصْدًا إِلَى الدَّعَةِ وَالرَّاحَةِ بِتَرْكِهَا، فَهُوَ مِنْ جِهَةِ مَا هُوَ فَاعِلٌ بِإِطْلَاقٍ أَوْ تَارِكٌ بِإِطْلَاقٍ، مُتَسَبِّبٌ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ لَهَا، كَمَا كَانَ النَّاسُ فِي أَزْمَانِ الْفَتْرَاتِ، وَالْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ هُنَا هِيَ الْمُعْتَبَرَةُ بِمُلَائِمَةِ الطَّبْعِ وَمُنَافَرَتِهِ؛ فَلَا كَلَامَ هُنَا فِي مِثْلِ هَذَا‏.‏